الأحد، 28 يوليو 2019

(منتخبات صحفية) "رأس المال، سيرة كتاب".. التحفة الخفية لشاعر الديالكتيك - زياد عبدالله


قراءة كتاب "رأس المال – سيرة كتاب" لفرانسيس وين (ترجمة: ثائر ديب – دار فواصل 2019) شيّقة بلا أدنى شك، مضافاً إلى ذلك قدرة الكتاب على إيقاظ نواحٍ شخصية على اتصال بعلاقتي مع كتاب ماركس المفصلي، وهذا يمتد ربما ليشمل كل قارئ قرأ "رأس المال" أو سعى إلى قراءته، أو حتى عجز عن قراءته من أول ثلاث صفحات! ولأضيف على ما تقدّم الجانب الأدبي في هذا الكتاب الذي لطالما آمنت به، لا بل إن قراءتي لبعض فصوله – من دون أن أتمكن من قراءته كاملاً رغم اعتقادي بأنه سيكون محزناً أن يموت المرء ولم يقرأه- كان على الدوام متأتياً من أسباب أدبية وفنية أتبين فيها منابع بريشت و"التغريب"، وايزنشتين و"المونتاج المتوازي"، والفصول المتعلقة بـ "صنمية السلعة" و"فتشية السلعة" التي لطالما كانت وما زالت تعتمل في رأسي كما القصائد العظيمة التي لا تكف عن توليد المعاني.
يرد في كتاب وين الكثير مما يتعلق بهذا الخصوص، إذ يقول ماركس في تذييل الطبعة الثانية من رأس المال "ما من أحد يمكن أن يشعر بنواقص رأس المال الأدبية بالقوة التي أشعر بها"، والإشارات التي حملتها رسائله إلى انجلز بأنه "يقدّم عملاً من أعمال الفن"، لا بل يصل الأمر بوين إلى اعتبار رأس المال "رواية غوطية يستبعد أبطالها ويستنزفهم وحش خلقوه بأنفسهم"، ولترد توصيفات لـ "رأس المال" من قبيل "ميلودراما فيكتورية"، و"هزلية ساخرة سوداء" تفضح "الواقع الشبحي الذي تتسم به السلعة بغية تبيان الفارق بين المظهر البطولي والواقع المخزي".
أعترف بأن ما استعرضته فيما تقدّم هو جانب من الكتاب، الذي تمثُل أهميته أولاً في تحرره من أي مقاربة كلاسيكية أو قدسية أو دوغمائية لـ "رأس المال"، وليتبدّى ذلك من مدخله المعنون بـ "التحفة الخفية" حيث تظهر مخاوف ماركس من صنيعه في "رأس المال" أشبه بالرسام فرينهوفر في قصة بلزاك "التحفة الخفية" الذي أمضى عشر سنوات وهو يعيد رسم لوحة لدرجة لم يبق فيها شيء.
سنعايش في الفصل المعنون "الحمل" آلام المخاض الطويلة التي عايشها ماركس وهو يؤلف "رأس المال" والمسودات تتراكم من كل حدب وصوب على مدى 13 عاماً، وبكثير من التفاصيل المتعلقة بحياته ومعاناته جنباً إلى جنب مع مخاض "رأس المال" والكتب الأخرى التي صدرها، وهوسه بالكمال واستقدامه على الدوام "ألواناً جديدة إلى لوحته" كما هو فرينهوفر، وبالتالي خوضه رحلة مترامية من الحذف والإضافة إلى ما لا نهاية، مما لم يتح المجال لأن يطبع في حياته سوى الجزء الأول من كتاب "رأس المال"، وليبقى كتاباً مفتوحاً كما هي الرأسمالية حسب كتاب وين.
إن تتبع فصول كتاب وين المكثف والوجيز بدءاً من "الحمل" وصولاً إلى الفصلين الآخرين "الولادة" و"الحياة اللاحقة" سيجعل من "بيوغرافية" الكتاب عنصراً من عناصره بحيث تغلب عليه نقدية عالية سواء لـ "رأس المال" بحد ذاته وأخذه إلى مساحة شعرية مغيّب عنها في شتى المقاربات التي تناولته، وصولاً إلى من تلقفوا "رأس المال" في توجيه سهام نقد حادة ومسمومة تقول لنا معشر القراء بأن كلّاً من لينين وستالين وتروتسكي وماو وألتوسير وغرامشي وآخرين لم يكونوا حيال صنيع ماركس أو أنهم كانوا مقابل فيل لا يعرف المرء ما الذي يفعل به، مؤكداً في الوقت نفسه بأن الماركسية كما مارسها ماركس نفسه "لم تكن أيدلوجيا بقدر ما كان عملية نقدية وحجاجاً ديالكتيكياً متواصلاً،" ولا بل إن كتاب فرانسيس وين حافل بكل ما ينزع عن الأنظمة الشيوعية صلتها بماركس وما من عبارة تدلل على ذلك أكثر من أن "أحقّ إنجاز ماركسي أنجزه الاتحاد السوفياتي كان انهياره."
في ختام الكتاب يُترك المجال لمقاربة أعداء الماركسية لـ "رأس المال"، وقد انحلّت عرى هذه العداوة مع انهيار جدار برلين كما يشير الكتاب، وليجد كثير من المفكرين والاقتصاديين الرأسمالين ضالتهم في "رأس المال" وهو يفتح مغاليق الكثير من أزمات الرأسمالية ومآزقها، فهو جدير بالقراءة طالما بقيت الرأسمالية وصولاً إلى الخلاصة التي يختتم فيها كتاب وين والتي تقول بأن ماركس هو "المفكر الأكثر نفوذاً في القرن الواحد والعشرين." وكما لو "رأس المال" ظلّ تحفة خفية لما يقرب القرن والنصف من الزمن!


المصدر: موقع أوكسيجين
https://urlz.fr/ag1I

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

(المؤلّف يقدّم نصّه) "يعقوب صنوع: رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة" لـ نجوى عانوس

منذ قرابة أربعة عقود تشتغل الباحثة المصرية نجوى عانوس على تراث المسرح العربي، وقد أصدرت حوله موسوعة سنة 1984 صدر بالهيئة المصرية العامة لل...