الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

(ضيف منشورات) خليل قويعة: التّفكير في ممكنات اللغة التّشكيليّة

1- في كتاب "العمل الفنّي وتحوّلاته بين النّظر والنّظريّة" تهتمّ بمسألة التّلقي في الفنون البصريّة، ما الذي قادك إلى هذا الإنشغال؟
لم يقدني أحد، أنا من قدت نفسي بعد تدبير فهم ملائم للفن انطلاقا من تجربتي الفنيّة وقراءاتي الفلسفيّة، كما لم أقد أحدا وأحاول أن أكون قائد أفكاري... ومثلما تعلمين، ليس الفن مجرّد صناعة للوحات أو منحوتات أو خزفيّات... بل هو فكر متنام داخل معترك ثقافي يقوم على مراكمة المواقف والرّؤى ومواصلة مسار الإنشاء من المبدع إلى فاعلين أخر داخل المعرض أو المتحف أو الوسائط المتعدّدة. فلا يقتصر الأمر على الإبصار الحسّي والنّظرٍ "إلى" الأشياء الجميلة، بل أكثر من ذلك، يشمل النّظر "في" الأشياء، أي إعمال الفكر. إذ الإدراك نفسه مجموع ما هو حسّي وما هو ذهني. وهكذا، يتسع المجال في الفنّ إلى تنشيط عمليّات النّظر الإبصاري والذّهني ومختلف الأنشطة المعرفيّة التي تستحثها القراءة والتّأويل والنّقد والتّنظير.

ناهيك وأنّ الناقد هو من يؤسّس المعنى في الأثر وهو من بفضله يستمرّ العمل الفنّي في شكل أفكار ومواقف، في الفنّ المعاصر خاصّة، لا يقتصر على لحظة جماليّة سلبيّة خاطفة أو عابرة، بل يتّسع إلى تبيّن دلالات الإثارة والسّخرية والفضح والتّحسيس... على قاعدة قيم السّلم والحريّة، كما في الفنّ الملتزم، والقضايا الإيكولوجيّة، في فنّ الأرض والفن البيئي... وهو ما يمكّن الفنّ من تجاوز قيمة الجميل بحثا عن الإثارة من خلال تشويه صورة العالم وتقبيح صورته... وقد نشرت سنة 1989 نصّا حول جماليّة القبيح في الفنّ الحديث والمعاصر، بطلب من مجلّة "الحياة التشكيليّة" السّوريّة وقتها وكان يرأس تحريرها الأستاذ طارق شريف. إذ لا ريب، لزاما علينا أن ننخرط في هذه التّحوّلات المفهوميّة وربّما نتفاوض معها على الأقلّ، تلك التي أفرزتها الحداثة وألقت بضفافها على ثقافة التّلقّي. فنظريّة الفنّ في الحداثة وما بعدها لم تعد نظريّة للجميل، كما في القرون الوسطى أو فجر النّهضة الأوروبيّة. كما أنّ العمل الفنّي لم يعد "جميلا" بالضّرورة. إذ "الجمال خاصيّة أنطولوجيّة للعالم الطّبيعي"، بينما الفنّ منذ غوتة مرورا بهيغل أصبح أعقد وأسمى من المواضيع الطبيعيّة، بما هو نشاط للفكر وإحدى تجلّيات الرّوح المبدِع في التّاريخ. إنّ من ابجديّات الحداثة التفريق بين الجمال الفنّي (الإنساني) وبين الجمال الطّبيعي.
لقد أصبح على الشغل النّظري المتعلّق بالفنون أن يغيّر متّجهاته ويباحث في الأعمال الفنيّة مدى قدرتها على خلق القيم الجديدة وربط العمل الفنّي بالمعرفة حتى لا يكون مجرّد إحساس فرديّ معزول (Solipsisme) يدّعي الكونيّة على شاكلة ما يحدّد اليوم أزمة الفنّ في العالم العربي، حيث لم تخرج الحداثة بعدُ من هاجس الفرد وعبقريّته لتصبح سيرورة اجتماعيّة بين الذات و"الآخر". فالتلقي اعتراف بهذا الآخر المشارك في تأسيس مسارات الفعل الإبداعي وانفتاحها. ومثل هذا الرّهان يتطلّب إعادة النّظر في دور النّظر داخل المسار الإبداعي وكيف أنّه يضمن مواصلة عمليّة الإنشاء ما بين النّظر والنّظريّة. وفعلا، لا يمكن الحديث عن عمل فنّي ما لم يُعرَض داخل الدّورة الثقافيّة ويَعبُرَ المشهد العام للسّيرورة الإجتماعيّة من خلال النّصوص، أي ما لم يقع تلقّيه من قِبل مشاهد، ناظر، جمهور ثمّ قاري ومؤوّل وناقد ومنظّر. بل إنّ هذا الرّهان يلقي بضفافه حتى في مبادلات سوق الفنّ، حيث تقع ترجمة القيمة الجماليّة إلى قيمة مصرفيّة بالاستناد خاصّة إلى موقع العمل في "عالم الفنّ" الذي يحرّكه عديد الفاعلين في شكل أفراد وجماعات ومؤسّسات. إنّ المتلقّي، النّاظر، هو من يصنع العمل الفنّي، كما قال رائد الطلائعيّة مارسيل دوشمب. وسنة 1994، كنت قد تحدّثت مع هانز روبرت ياوس، كبير جامعة كونستونس الألمانيّة، في هذه المسألة وفي بعث مشروع حول جماليّة للتلقي منكبّة على الفنون التشكيليّة البصريّة. قال لي بالحرف الواحد هذا ما ينقصنا في كونستونس حيث كرّسنا عقودا من الزمن في دراسة تلقّي الأعمال الأدبيّة لدى غوتة وفيكتور هيغو... واقترحَ عليّ التّعاون مع أحد أفراد الجيل الجديد لكونستانس وهو ولفغانغ كمب الذي كانت له وقتئذ نيّة التّخصّص في هذا المجال.
يعود اهتمامي هذا إلى أنّنا كلّما تحدّثنا عن الأعمال الفنيّة لا نذكر سوى أصحابها من الفنّانين ونتناسى دور المتلقّي الذي يعدّ باعثا انطولوجيّا جديدا للأثر ولاعبا أساسيّا في "عالم الفنّ"... بل وكلّ فعل تواصلي وسيميولوجي من خلال الفنّ لا ينشط إلاّ بوجود أربعة مقوّمات وهي الفنان، العمل الفنّي، المتلقّي والفضاء الثقافي الذي يجمعها. وما يزال الفضاء الثقافي في ربوعنا أعرج، أحاديّ الإشتغال، يفتقد إلى دور المتلقّي في الفنون البصريّة وذلك نظرا لغلبة المفهوم الطّربي للإبداع الذي يرضي النّاسَ ويكرّس السّائد (L’art d’agrément) على حساب البعد التّأمّلي والتّفكّري. وهو ما انعكس على سياساتنا الثقافيّة عامّة التي همّشت المتلقّي وأبناءه الشرعيّين من قارئين ومؤوّلين ونقّاد ومنظّرين، لصالح نجوميّة المبدعين الأصليّين والفنّانين وخاصّة ممّن يُعتبرون صنّاع المتعة الجماليّة.
هذه الفجوة في الفضاء الثقافي بتونس والعالم العربي، كنت قد لاحظتها منذ معرضي الأوّل سنة 1983 ومعرضي الثاني سنة 1987، حيث وجدت مُجاملين ظاهرين ومناوئين متخفّين ولكن لم أجد "جمهورا" فاعلا. وقد طرحت هذا الموقف قُبيل تأسيس مهرجان المحرس للفنون التشكيليّة في الجَرَائِدِ سنة 1988 وأثناء لقاءات تأسيسه بدار الثقافة ابن خلدون بتونس ضمن برامج اتحاد الفنانين التشكيليّين. بل وسنة 1997، اقترحتُ على التلفزيون التّونسي سلسلة دامت خمس سنوات، من الحصص التي تتّجه إلى الأعمال الفنيّة وتحث النّاس على الإلتفات إلى الأعمال الفنيّة والنّظر إليها وفيها (طبقا للمنهجيّة التي عرضتُها على ياوس) وقد استثمرت ممكنات اللّغة السينمائيّة في تفصيل الصّورة الفنيّة وإعادة إنتاجها... بعد ذلك دُعيت من قٍبل الدّكتور محمد حمدان لتدريس قراءة الأعمال الفنيّة في برامج طلبة الصّحافة بالأقسام النّهائيّة، في إحدى الجامعات، وفي نفس الوقت كنت أقدّم التّجارب الإبداعيّة التونسيّة والعربيّة... بمجلّة "الحياة الثقافيّة" وجريدتي "لابراس" و"الصّباح" ثمّ دعتي الأستاذة عواطف بن حميدة مديرة الإذاعة الوطنيّة وقتذاك لإعداد برامج في هذا الشأن يحث الشباب على الذهاب إلى المعارض الفنيّة ويقدّم مفاهيم الفن الحديث والمعاصر ويتحاور مع الفنانين وأصحاب الكتابات والبحوث حول الفنون ومع النّاس... وسنة 2003 قال لي بعض طلبة السّنة الرّابعة في حفل تخرّجهم من المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل أنهم جاؤوا إلى الفنون من خلال متابعتهم لهذه البرامج ! عندها شعرت أن مهمّتي ما تزال طويلة، حيث (وإن استنتجت شيئا ذات معنى) كانت النّتيجة تكوين فنّانين وأساتذة عوضا عن تكوين "جمهور" !!! لكنّ ذلك شجّعني على مزيد مراكمة الجهود في المجال.
تلاحظين إذن أنّ منطلقات المسألة ليست أكاديميّة خالصة بل ثقافيّة وإعلاميّة، ميدانيّة... تراهن على التلقّي الجمالي كضمانة لتحوّل العمل الفنّي من المرسم أو الورشة إلى الفضاء الثقافي العام ثمّ اكتساح الفضاء الإعلامي، ليصبح مساهما في صياغة الضّمير الثقافي للمجتمع وجزءا من حياة النّاس، وهذا ما نطمح إليه، حتّى لا يكون الفنّ مجرّد ترف في الصّالونات المغلقة.



2- تحضر الفلسفة بقوّة، لماذا تعتمد هذا المنطلق بالذّات في مقاربة الفنّ؟
بالعكس، أنا أنطلق من الفنّ إلى الفلسفة وليس العكس. رغم أنّ المسألة يمكن أن تكون فلسفيّة خالصة بطبيعتها. ولا ريب، عندما يتحوّل النّظر إلى إنشائيّة فكريّة، قصديّة وسيميائيّة (إذا ما استعرنا لغة جون ماري شافار)، باتّجاه صياغة "رؤية" نقديّة، لا بدّ من معاشرة أجهزة المَفهَمَة والتّجريد. وهو ما يتطلّب اطلاعا على الأجهزة المفاهيميّة الفلسفيّة في النّظريّة الجماليّة والفينومينولوجيّة ونظريّات الفلسفة التّحليليّة الأنغلوسكسونيّة التي تشتغل على تحليل اللّغة، كبنية منطقيّة. لا يكفي أن ننظر إلى العمل الفنّي من خلال ألوانه وخطوطه وعلاماته التشكيليّة والأيقونيّة وطرائق بنائه فقط، فتلك حدود المقاربة التقنيّة داخل الورشة وذلك لا يكفي. إذ على النّاقد أن يستفيد من الفلسفة بما هي مؤسّسة للتّجريد والنّقد والمفهمة، حيث الانتقال من النّظر الفيزيائي تارة، ومن التّماس الانطباعي تارة أخرى، إلى النّظر من داخل المتن اللّغوي نفسه الذي يُمنطِق العالم المدرَك ويساعدك على تشكيل العمل االفنّي داخل كيان النّصّ (فالنّقد الفنّي ماهيّة نصيّة) بما هو متكوّن من وحدات منطقيّة بعضها يؤدّي إلى بعض...
وكنت لهذا الغرض قد درست الفلسفة ثمّ فلسفة الفنّ والجماليّات، بما هي تفكير فلسفيّ في الفنّ. وبعد الأستاذيّة اتّجهت إلى المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس للتّخصّص في نظريّات الفنّ. فالفنّ قبل الفلسفة (على عكس بيان جوزيف كوسيث) ولا نظريّة للفنّ دون فلسفة، فدونها سيكون نظرنا إلى الأعمال الفنيّة سطحيّا لا يُنتج معرفة. إذ الفنّ اليوم، خطاب معرفيّ بالأساس وليس فقط حالة انطباعيّة. إنّه موقف من العالم وطريقة لإعادة ترتيب الاشياء.
ولا ريب، كما أكّد آرثر دانتو، أحد فلاسفة الفن المعاصر، إنّ التّحوّلات الأخيرة التي شهدها الفنّ في النّصف الثاني من القرن العشرين قد نشأت من داخل الإعداد الفلسفي لطبيعته المخصوصة، بما هو يتميّز عن مجموع المواضيع والأغراض التي تحيط بنا في الواقع الحسّي والتي لا تستدعي تأويلا. وفي مثال آخر، نفهم ما قصده أحد روّاد الفنّ المفاهيمي وهو جوزيف كوسيث في بيانه الموسوم بـ "الفنّ بعد الفلسفة" (Art after philosophy)، حيث أنّ ما ننظر إليه في الفن المعاصر وخاصّة المفاهيمي من أغراض وإنشاءات ماديّة معروضة أمام الإدراك الفيزيائي المباشر، ليس تمامًا ما يحدّد وجود العمل الفنّي. فما يوجد أمامنا ليس بعمل فنّي، بل العمل يوجد في الذّهن أو ما أسمّيه بالأفهوم أي في الأنا- أفهم، وليس في ما يُعرض أمامنا من أشياء نراها ونلمسها...
ومن جانب آخر، نحن اليوم نعيش مفارقة تراجيديّة، ترانا نلهف للإنخراط في الثقافة الفنيّة والجماليّة والإنشائيّة أملا في أن نحتلّ موطئ قدم في هذا العالم المتحرّك، ولكن ليس لدينا جهاز مفاهيميّ ملائم للمرحلة التّاريخيّة التي نعيش، ولا حتى جهاز اصطلاحيّ يخصّنا. فنحن نتعامل مع تجاربنا الفنيّة من خلال المفهوم الغربي للفنّ الذي صاغه فلاسفة الحداثة منذ بروز الذّاتيّة والتّذاوت أو التبادل بين الذّوات ومفهوم الجميل لا من حيث هو طبيعي بل كقيمة إنسانيّة نسبيّة مستقلّة، ومن ذلك أيضا مفهوم المعرض والمتحف. ففي تراثنا العربي الإسلامي ليس ثمّة "أعمال فنيّة" وقع إنتاجها من أجل العرض الفنيّ. بل هناك أغراض وأشياء ذات وظائف استعماليّة ونفعيّة... هناك خطوط لتدوين النّصوص وأواني ومزهريّات ودروع وزرابي ورقوش ونقوش لإكساء الجدران وتزويقها وهي صناعات حرفيّة في المعمار والأثاث... لا بدّ من الاشتغال الفلسفي والنّقدي على هذه المآزق الإشكاليّة.



3- هل استفدت من كونك فنّانا تشكيليّا لإنجاز هذا الكتاب النّظري؟
طبعا، فالكتاب ورقة عمل نابعة من التّفكير في ممكنات اللّغة التّشكيليّة كما مارستها وفي ما تهديه للفنّان والنّاقد والجمهور من إحالات على أوجه مختلفة من التّفكير في قيمة الحياة. ولا فنّ ينشط خارج التّجربة ومنطق الممارسة، حسّيّا ووجدانيّا وفكريّا. ومن ثمّة، يتوجّب على نظريّة الفنّ أن تنكبّ على دراسة روافد هذه التّجربة الإبداعيّة وهي تعيش اللّحظة الحيّة وتستشرف آفاقها. وكتشكيليّ ممارس، استفدت من الفنّ في إعداد الكتاب من خلال ثلاثة أفعال: أ- كيف أنظر وأفعل تشكيليّا في ما أنظر إليه؟ ب- كيف أعرض أعمالي أمام جمهور في فضاء ثقافي؟ ج- كيف أسترجع مسار الإنشاء الفنّي عبر المقاربة الإنشائيّة؟
فاللّحظة الأولى إبداعيّة والثانية تواصليّة تفاعليّة (أي جماليّة تراهن على الإثارة الحسيّة) أمّا اللّحظة الثالثة فهي إنشائيّة، تُواصل مسار الإبداع من خلال الفكر. لكنّ هذا المسار ليس حكرا على الفنّان بل يدعو إليه فاعلين أخَر داخل فضاء ثقافي موسّع يحثّ على مشاركة أطراف أخرى في هذه اللّعبة الإنشائيّة من نقّاد ومنظّرين وهو مجال انتقالي من الإنشائيّة الفرنسيّة (روناي باسّرون ورفاقه) إلى إنشائيّة أخرى تشاركيّة تستفيد من فنون العرض والافتعال الفنّي (Les artefacts) ويمكن أن نجدها مجسّدة في جماعة الفلسفة التّحليليّة الأمريكيّة (نالسون غودمان مثلا) وهي لحظة أنطولوجيّة. إذ المقاربات التّحليليّة التي ساعدتني في تحويل النّظر إلى نظريّة، قد أسهمت في صياغة "عالم الفن" الذي يتنفّس فيه الأثر ويعيش، بل هي تقدّم نفسها كشرط لوجوديّة العمل الفنّي نفسه في التّاريخ الثقافي.



4- كيف ترى واقع الكتابات الفكريّة حول الفنون البصريّة في العالم العربي؟
هناك نقّاد وهناك تجارب عديدة رافقت جيل التّأسيس والرّيادة منذ بداية القرن العشرين، بُعيد الثلاثينات خاصّة... ولكنّ النّقاد العرب لم يحظوا بعد بالمنزلة الملائمة.  بل وقد وقع تهميشهم وإقصاؤهم على نحو ما وقع سنوات السّتينات بتونس مع جيل التّحديث، حيث كان الفنّانون المتنفّذون في السّياسة الثقافيّة ينزعجون من النّقاد ولا يعترفون سوى بالصّحفيّين الموثقين و"الخلوقين" للتّعريف بإنتاجاتهم والدّعاية لبرامجهم الجماليّة (النّوستالجيّة ذات العلاقة بالفولكلور وما ترغب عين السّائح الأجنبي في رؤيته)... وهذا في عديد البلدان العربيّة أيضا وقد أوضحته في كتابيَّ "تشكيل الرّؤية" وكذلك "عمارة الرّؤية" (2007) و"بنية الذّائقة وسُلطة النّموذج" (2013) الذي حصل على جائزة من الشارقة في البحث النّقدي وقد أكّدت فيه أنّ النّاقد (الذي يفترض أن يؤسّس لقيم سوق الفنّ ويوجّه مساراته) ما يزال مهمّشا. ولئن أكّدت في "العمل الفنّي وتحوّلاته..." أهمية النّظر في إنشائيّة العمل الفنّي... إلاّ أنّني ساع إلى تعميق المسألة بالعودة إلى تاريخ الفنّ في ربوعنا، ضمن كتاب آخر حول إنشائيّة التّلقي نفسه وتحوّلات قاموس العلامات التشكيليّة...



5- ما الذي ينقص الفكر الجمالي العربي اليوم وأيّ أفق لتطويره؟
لا يخفى عليك أنّ المتلقّي مهضوم الحقّ في الفضاء الثقافي العربي ومن ذلك تتناسل مكوّنات أزمة الفنّ وترويجه، خصوصا ونحن نحتاج اليوم إلى تعميم ثقافة التلقي الجمالي، بداية من برامج التّربية، ونشر الثقافة النقديّة لمواجهة هذا الزّحف العولمي الذي طال مختلف ربوع العالم العربي، حيث تأتينا الأعمال الفنيّة المصنّعة في شكل ثقافة معلّبة من أقاصي الشرق والغرب ومن إفريقيا معوّقة تجذير الذّائقة الفنيّة وتطوّرها الطبيعي والتّاريخي... وهي حالة من الاغتراب فعلا، تشجّع عليه سياسة السّلعنة وتبضيع الفكر الجمالي وكذلك تضبيع العقل الثقافي.
وسنة 2006 دعانا الأستاذ طلال معلاّ إلى تكوين الرّابطة العربيّة لنقّاد الفنّ، ولكن سرعان ما وقع إجهاض المشروع. إذ الواقع العربي لم يتحمّل بعدُ منبرا دوريّا وقارّا للخطاب النقدي. فمازلنا نتحدّث عن الفنّ فنسرد أوصاف الفنّانين وسيرتهم، باحثين عن أسطرة ممكنة تبتلع موقع المتلقي والنّاقد والمنظّر وتعدمه. كما أنّ هذا الواقع ما يزال مورّطا في ثقافة الفنّان الفرد على حساب الجماليّة التّفاعليّة المتعلّقة بتشريك الجمهور.
ولكن، هناك مبادرات لإصدار الكتاب النّقدي بروح نضاليّة وهاجس وطنيّ لدى بعض النّاشرين وهناك بحوث جامعيّة وإن، بعدُ، لم تتغلغل كمستند للرّؤية في السّياسة الثقافيّة وبقيت مشدودة إلى المجال الأكاديمي، وذلك في أحسن الأحوال لا محالة. إذ المعترك الثقافي والفنّي العربي ما زال لم يستوعب بعد النّقاد العارفين وكثيرا ما يقع تعويضهم في هيئات الإعلام ولجان التّنظيمات الثقافيّة ببعض الدُّمَى أو بأطراف أخرى من خارج الممارسة الفنيّة والنّقديّة... النّاقد، المنتج والمفكّر لم يجد حظّه بعدُ والحال أنّه طرف في حداثة الفنّ في العالم وما بعد الحداثة. وهو مردّ سيطرة المفاهيم البالية للفنّ في عالمنا العربي، حيث تعتمد البرامج الثقافيّة على مفاهيم للفنّ غير ملائمة، مرتبطة بالكمالي والتّكميلي والتجميلي والزّينة... والنّتيجة، مقاربات تربط الفنّ بالتّنشيطي والتّرفيهي والمهرجاني العابر على حساب مفهوم الإبداع.
على أنّ من شأن النّهوض بالكتابات الفنيّة أن يتدارك هذه المآزق التي تمرّ بها الثقافة الجماليّة في العالم العربي في ظلّ الاستهلاك العولمي... ولنا أن نثمّن بعض المبادرات التي تقوم بها الهياكل والجمعيّات والجامعات في بعض البلاد العربيّة مشرقا ومغربا، من خلال تنظيم النّدوات المتعلّقة بالفنون وتحاول أن تطرح قيم الإبداعيّة والهويّة والتّأسيس على ضوء تحوّلات الرّاهن التّاريخي الكبير وما مدى موقع الفنّان العربي داخل الخارطة الدّوليّة... على نحو ما كنّا نتصوّره منذ سنوات ببيت الحكمة بقرطاج، أو برامج الجمعيّات التي أسّسنا ونشتغل فيها. كما يجب أن نحيّي بعض النشرات الجامعيّة والمجلاّت العربيّة المختصّة التي يسهم فيها النّاقد العربي. وها نحن، على سبيل المثال، في مجلّة فنون (التي أسّسها الكاتب البشير بن سلامة سنة 1983 وقد نجحنا في إرجاعها سنة 2012) نحاول جميعا النّهوض بالأصوات النّقديّة وترويج الثقافة الجماليّة (التّفاعليّة) فضلا عن الثقافة الفنيّة التي تقوم على إبراز إبداعيّة الأعمال الفنيّة. والأمثلة موجودة الآن في العالم العربي، رغم قلّتها، في المغرب أيضا والأردن والعراق وسوريا ومصر وبيروت والخليج العربي طبعا، الشّارقة والدّوحة ومسقط والكويت... فضلا عمّا يوجد بالمهجر من مبادرات.


مادة خاصة بمدونة "منشورات"/ أجرت الحوار: بثينة غريبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

(المؤلّف يقدّم نصّه) "يعقوب صنوع: رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة" لـ نجوى عانوس

منذ قرابة أربعة عقود تشتغل الباحثة المصرية نجوى عانوس على تراث المسرح العربي، وقد أصدرت حوله موسوعة سنة 1984 صدر بالهيئة المصرية العامة لل...