السبت، 21 سبتمبر 2019

(المؤلف يقدّم نصّه) محمد جديدي عن "الترجمة.. رؤية فلسفية" - مؤمنون بلا حدود

لماذا هذا الانشغال بالترجمة من منطلق فلسفي؟ الانشغال يتأتى من صميم الاشتغال بالفعل الترجمي وينطلق من سؤال جوهري وفلسفي بامتياز: لماذا أترجم؟ قد يحدث أن يكون سؤالا أوليا ومباشرا يبادر به كل شخص تخطر بباله ترجمه كلمات أو عبارات أو نص وهو بصدد القيام ببحث أو كتابة نص أو إعداد عمل بيداغوجي أو تقرير  ما  وفي كل عمل يحيل إلى مراجع نحتاج فيه إلى فعل ترجمي لا سيما إذا ما أردنا الرجوع إلى النصوص الأصلية ومتى كانت لنا القدرة على المرور إلى اللغة الأم النص. غير أن الإجابة عن السؤال في هذا المستوى تظل غير كافية ولا تزيح توترا فكريا باطنيا يسعى إلى مزيد من الارتواء الميتافيزيقي باحثا عن أبعاد أخرى متضمنة في فعل الترجمة ولماذا يندفع الإنسان نحو وجهة ترجمية تزيد في النهاية  من رغبة التواصل البشري وتوحيد خبرات البشر في التفاهم والتثاقف والتعايش.

كيف تجد الاهتمام بالترجمة كقضية فكرية في العالم العربي؟ على الرغم من كونها إحدى الرواسب الثقافية لماضي الثقافية العربية إلا أنها لا تزال بعيدة عن تبوئها مكانة مرموقة وكقضية فكرية مركزية في الثقافة العربية المعاصرة. ومن يرصد مشاريع الترجمة ومؤسساتها في العالم العربي يدرك مدى التأخر الذي تعانيه الترجمة في بلادنا العربية ليس على صعيد ترجمة نصوص الثقافات الأخرى إلى العربية أو العكس إنما كذلك على صعيد الدراسات الترجمية والثقافية التي توحي بقيمة الترجمة كقضية أساسية في واقعنا الثقافي. طبعا هذا لا ينفي تثمين بعض المشاريع والجهود سواء المؤسساتية أو الفردية وهي تعد رائدة وتحتاج إلى دعم لكنها مع ذلك تظل غير كافية والأرقام وحدها تبين حجم النقص الذي تعاني منه الثقافة العربية في مجال الترجمة، إذ أن ما يترجمه بلد أوربي واحد ــــ مثل إسبانيا ــــ سنويا يفوق ما تنجزه الدول العربية مجتمعة. وكيف تكون الترجمة قضية فكرية في العالم العربي وقد لا يجد الكتاب طريقه إلى العربية إلا بعد ثلاثين سنة من صدوره إني أضرب مثالا هنا لكتاب الفيلسوف الأمريكي "الفلسفة ومرآة الطبيعة" والذي نشر في سنة 1979 ولكنه لم يترجم إلا في سنة 2009.

يحمل أحد فصول كتابك عنوان "الترجمة والإبداع الفلسفي"، انطلاقا من ذلك كيف ترى ذلك الجدل حول أولوية الترجمة أو التأليف في الفكر العربي؟ لا مناص من أن العربي اليوم مطالب بالإبداع، إبداع نصه، فكره، علمه وفنه وهو قادر على ترك بصمته الإبداعية في هذه المجالات إذا ما توافرت شروط وظروف الإبداع والتأليف. هذا الأخير قد يلبس ثوب التجديد في قراءة تراثية أو تصحيح ومراجعة قراءات سابقة أو تقديم رؤية جديدة لنصوص قديمة وحتى المبادرة بترجمات جديدة، ناهيك عن العمل الترجمي كضرورة في كل نهضة فكرية وأدبية وعلمية وليست الترجمة كما راج من أنها عمل ثانوي تابع دوما لنص مسبق أصلي، إنما تتضمن في إسهامها الحضاري وغايتها الحوارية كشكل من أشكال الضيافة الإنسانية فعلا إبداعيا لا يقل أهمية وقيمة عن التأليف. 

تختم كتابك بفصل عن مستقبل الترجمة في الجزائر، ماذا عن مستقبلها في مجمل العالم العربي؟ الحديث عن مستقبل الترجمة في الجزائر هو بمثابة صرخة وتنبيه إلى هذا الجانب الغائب والمغيّب من ثقافتنا ومن واقعنا ومن اقتصادنا، غائب لأنه لا يحضر إلا محتشما في منشوراتنا ونصوصنا ومشهدنا الثقافي عموما. ومغيّب لأنه خضع لفتنة اللغة وتأثر سلبا بأدلجتها، إذ ألقى الخطاب الكولونيالي وما بعد الكولونيالي بظلاله على واقع الترجمة في الجزائر ولم ننخرط في مسار تعدد اللغة وتنوعها في بلادنا بل سايرنا رؤية أحادية لمسألة اللغة والهوّية فكانت نتائجها وخيمة على الترجمة. وكان بإمكان الجزائر انطلاقا من موقعها الجغرافي المتميز وإرثها التاريخي أن يكون لها شأن كبير في مجال الترجمة بحيث يكون لها صدى واسع وموقع متقدم بمعية شقيقتيها تونس والمغرب ـــ انطلاقا من التشابه والتقارب الفكري والحضاري ـــ  في مضمار العمل الترجمي والدراسات الترجمية. الشيء الذي لو تمّ لأمكن معه التفاؤل بمستقبل الترجمة في العالم العربي غير أن الأمر ليس كذلك فالجهود المؤسساتية والفردية في بلاد المشرق ــــ وهي نسبيا متفوقة على مثيلاتها في بلاد المغرب العربي ــــ تظل بحاجة إلى دعم وتطوير  ومزيد من الجهد  لأننا من دون ترجمة نبقى خارج العالم.


مادة خاصة بمدونة "منشورات"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

(المؤلّف يقدّم نصّه) "يعقوب صنوع: رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة" لـ نجوى عانوس

منذ قرابة أربعة عقود تشتغل الباحثة المصرية نجوى عانوس على تراث المسرح العربي، وقد أصدرت حوله موسوعة سنة 1984 صدر بالهيئة المصرية العامة لل...