الخميس، 19 ديسمبر 2019

(المؤلف يقدّم نصّه) الزهرة إبراهيم عن "أهازيج إبراهيم الحَمَوِيّ".. إضاءات على واقع النشر العربي




1. كيف تقدّمين "أهازيج إبراهيم الحَمَويّ" للقارئ؟هذا النص الدرامي عودة إلى سفينة التاريخ العربي لفحص ثقوبها ووضع اليد على مسارب الماء التي تمعن في إغراق الإنسان العربي بالسقطات. تاريخ ينتج الهزائم بلا توقف، ويحن إلى مأساة بغداد ودمشق وغرناطة. هكذا شكلت النص عبر ثلاثة مواويل وسبعة أنغام:
1-     نغم السؤال عبارة عن استهلال؛
2-     موال بغداد: نغم الشعر ونغم العزاء؛
3-     موال غرناطة: نغم الغواية ونغم الجزر؛
4-     موال دمشق: نغم أَزادي ونغم الخلود.
سألني صديق قارئ يكتب للمسرح: هل حصل تحويله إلى عرض مسرحي؟ ضحكت، قلت: ليس بعد... قال: ولِمَ؟ أجبت: حين يجد مخرجا قادرا على تسديد نظرة جريئة إلى عيون الأنظمة العربية...


2. متى كتب النص وما دوافعه؟
النص وكغيره من نصوص سردية وشعرية بدأتْ كتابتها في لا وعيي منذ صرت أعي فساد العالم الذي وُجِدتُ فيه دون إذني. لكن، حين يتوفر الشرط التاريخي للتعبير عن مقصدياتي حول قضية ما، فإن حروفي سرعان ما تنطُّ إلى بياض الورقة بكل حرية وصدق وترقص رقصتها المناوِئة... ولعل ارتجاج الخرائط في العالم العربي منذ نهاية 2010 كان مثيرا قويا ليقطر الحبر وبعده الحبر... قد يتوقف أحيانا، لكنه مرابط في قلاع الكتابة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.  "أهازيج إبراهيم الحموي" هي الكتابة العزاء والكتابة البديل في واقع الاستسلام العربي. زواج أرثدوكسي مع الفن الملتزم حين يفتح صدره عاليا لرصاص الأنظمة. اجتمعت في هذا النص مناحة لم يخفت بعد نشيجها.. سال الحبر بعد أن دُقَّت أصابع الكاريكاتوريست علي فرزات، وحين اقتلع النظام السوري حنجرة منشد الثورة إبراهيم قاشوش وألقوا جثته في نهر العاصي... هل توجد همجية أكثر من هذا في حق الفن والفنانين حين يثورون من أجل كرامة الإنسان وحقه في الحرية والعدالة والعالم يعيش في زمن آخر فصم عراه بالاستعباد التقليدي وعبادة أوثان السلطة... وهل يوجد سبب أكبر من هذا لامتطاء صهوة الكتابة الجامحة ضدا عن الكتابة المروَّضة.



3. في تدوينة لك على فيسبوك، أشرت في تقديم هذا الكتاب الجديد إلى إقصاء ممنهج من طرف الناشر؟يرتبط الأمر بواقع النشر في الوطن العربي عموما. بداية من دور النشر المغربية التي تضظرّنا نحو وجهات قد تكون مأمونة أحيانا، ومُريبة أحيان أخرى. لقد عانى ويعاني معظم المؤلفين والكتاب من مشاكل النشر والتوزيع بسبب جشع دور النشر، أولا، حيث إنها تتحجج دوما، بارتفاع سعر الورق في السوق العالمية، وكذا تزايد الضرائب، وكساد القراءة، وثانيا، لأن الاعتمادات المخصصة لنشر الكتاب من لدن الجهات الوصية عليه، لا تلبي، حاليا، مجموع الطلبات، يضاف إلى المشهد انتشار المحسوبية والعلاقات في هذه العملية. ويؤسفني أن يتورط في هذا الفعل أكاديميون وجامعيون تحولوا، بين عشية وضحاها، من ضحايا النشر ومتذمرين من شروطه المجحفة في حق الكتَّاب، إلى أباطرة يصولون ويجولون، ويبحثون في كل ربع ووادي عن نهزة لا ترحم جيوب المبتدئين ولا المكرسين، اللهم إلا إذا كانوا من دائرة المقربين، فروح وريحان وجنات نعيم، فلا تظل أعمالهم في طوابير الانتظار كما حصل للمسرحيتين السيزيفيتين (نسبة إلى سيزيف) مع دار نشر مغربية بعد رحلتهما التعيسة الأولى في دار الجندي للنشر، ونفس الأمر حدث لديواني الشعري الموجه للصغار "معبدُ الفَراش تقاسيم للوطن وللأطفال" في طبعة ثانية مفترضة مع دار نشر مغربية، نفسها. يحدث هذا طبعا، مع وجود بعض الاستثناءات التي استطاعت أن تطبق نموذج العقود المتعامل بها في الدول الراقية في هذا الباب، وانطلاقا من تجربتي، كما هو الحال بالنسبة إلى "دائرة الثقافة والإعلام" بالشارقة، و"دار المتوسط" بميلانو؛ لكن الوضع شبه العام داخل العالم العربي ما زال يتخبط في كثير من الفوضى واستغلال أصحاب الحقوق، حتى صرنا، على سبيل العد لا الحصر، نتداول في نقاشنا "حكاية الألف نسخة التي لا تنتهي" ونضحك بمرارة.
وهي أفظع طريقة لانتهاز الكاتب حيث لا يستفيد -إن كان هناك استفادة فعلية أصلا- سوى مرة واحدة. هنا نطرح سؤالا جوهريا: هل تملك الجهات المعنية بنشر الكتاب في العالم العربي آليات مراقبة الناشرين لضبط هذا الغش والاستغلال البشع لأصحاب الأقلام؟ أما عن حكايات الناشرين الذين يسرقوننا تحت مسمى "تقديم الدفعة الأولى من تكلفة الطبع" ثم لا يعودون إلى المعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء، فتلك حكاية عاشها كثير منا بمرويات مختلفة. حدث لي هذا منذ 2015 حين قصدت مدير دار الجندي للنشر بالقدس، كي ينشر لي نصين مسرحيين صعدا إلى القائمة القصيرة في مسابقة التأليف المسرحي سنة 2014؛ الأول للصغار بعنوان "قناديل البَرِّ المُطفأة"، والثاني للكبار بعنوان "أهازيج إبراهيم الحمويّ". وكان علي انتظار ثلاث سنوات من التسويف والكذب والتمطيط والتهرب... لأكتشف أن هذا الناشر له سمعة غير مريحة، وأنه يوظف القضية الفلسطينية لتحقيق مآرب شخصية خلال معارض الكتاب العالم العربي، أقلها الحصول على رواق مجانا يروج فيه رواياته وهو يعلق راية الأرض المباركة ليبتز شعور العرب والمغاربة تعاطفا معه... وفي معرض 2018، يعود إلي بثلاثين كتابا بئيسا، سحبه في ورّاقة خلال تواجده بمعرض القاهرة للكتاب يومين قبل التحاقه بمعرض الدار البيضاء، وهذا (الكتاب) ليس أكثر من رزمات أوراق منسوخة بالطابعة العادية، كتلك الموجودة في بيتي، وبغلاف شوَّه فيه اختياري لوحة أمضيت أياما لانتقائها من مواقع الفن التشكيلي. كل هذا يحدث للكتاب والمبدعين لأننا نعيش داخل أنظمة يأكل فيها القوي الضعيف بلا رقيب ولا حسيب. ولأنني لا أُهْزَمُ، ولا أركعُ، ولا أساوم... قررت أن أطبع المسرحيتين، منفصلتين هذه المرة، على نفقتي الخاصة، وبالإخراج الذي يروقني. والحمد لله توفقت في ذلك.

4. إذن فإن خيار النشر على الحساب الخاص أقرب إلى موقف من منظومة النشر العربية والمغربية.
أعتبره فعلا ثوريا، ومستوى من النضال المشروع والواجب حتى يحيا المسرح فينا ونحيا به. ولن أنحني لأعاصير الإقصاء، فعشق الكتابة والمسرح أكبر عندي وأفضل من عشق المبالغ المالية التي يقتضيها النشر على نفقة المؤلف، وهذا هو الفرق بين رُسُل الكتابة وأنبيائها وبين لصوص الحروف وسماسرتها.


5. تراوحين في هذ العمل بين النثر والشعر. كيف كانت هذه المزاوجة؟
تراوح القصيدة مكانها بين حوارات المواويل، وكلما امتلك الشعر حيزا معتبرا داخل النص الدرامي كلما عدنا بالمسرح إلى منابعه البكر. صدقا، لا يسعفني النثر كثيرا في كتابة ردود أفعالي حول القضايا التي تخلخل وجود البشر الآمنين، الكتابة بالنسبة إلي، بعد الصدمة، هي بحث عن إعادة توازن لذاتي وللأشياء والعالم حولي، ولا أكتب أبدا قصيدة أو قصة أو نصا دراميا إذا لم يكن متدفقا من جوانيتي ومن مادتي الرمادية بكل ما يتطلب التوليف بينهما من مفاوضات وتواؤمات. لقد وجدت مأساة بغداد وغرناطة ودمشق، ماضيا وحاضرا، أكبر من أن تستوعبها حوارات النثر، ومن غير أن أرهن حروفي إلى خط واحد من الكتابة، وجدتني مسكونة بوجيب الشعر، ورعشة الاستعارات الفاتنة لأحكي قرونا من المآسي في مقاطع شعرية، هي في الوقت ذاته، حوارات بين شخوص المسرحية: "غصن البان" و"شهاب الشاعر"، يقول في بعض حواراته:
يا أيتامَ سُومرَ الحَيارى
لا تَمُزُّوا تلكُم الأنْخاب
سُمٌّ في بطونكم ولائمُ بغداد
سُلافُ فُراتها رُعاف
وكأسُ دجلةَ زُعاف
وضفافُها الفيحاءُ ما عادتْ تَلمُّ الأحباب
تَئِنُّ التَّواشيحُ في عرسِك الدَّمويّ
فسَفَّاحوكِ تَبَّلوا لحمَكِ للكلاب
رَفَعوا للهَمَجِ ساقيكِ طوْعا
وتبادلوا العزاءَ فيكِ يا بغداد...
وبين "ما لم يُنْشَر في حلم" و"فينوس"، تقول:
سآتي إليكَ... طبقُ حنَّاءٍ في يَدِي
أعْبرُ إلى الساحات... إلى أقبيةِ دِرْعا
أتعثَّرُ بين شِلْوٍ وشِلْو
تَستعْطِفُني عيونُ الموْتى
أُغلِقُ جفونَهم.. فالنملُ يَقتاتُ المآقي
أمرقُ إلى حُمْصَ ليلاً... نقيمُ صلاةَ الغائب
ثمَّ نَمضي...


6. تراوحين أيضاً بين النقد والتأليف، كيف يفيد أحدهما الآخر؟
أجدها تجربة ذات قيمة نوعية في الفعل الإبداعي، لأنه يصبح نوعا من الممارسة العالمة، من جهة، وفي البحث الأكاديمي والنقد، من جهة ثانية، لأنه يهيء شروطا موضوعية للتجريب في الكتابة، كما يبلور، هذا التجاذب بين النقد والإبداع، منظورات التلقي، ويوسِّع دوائر مطاردة المعنى أو اللامعنى في مجموع الكتابات التي تخص عوالم المسرح. وتظل هذه التجربة ورشا مفتوحا على الاستقصاء وجسر أسئلة المسرح وقضاياه وانتظاراته بمختلف الحقول المعرفية التي يثرى بها ويُثْريها. إن رهاني الثقافي يكبر  في حضنهما يوما بعد آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

(المؤلّف يقدّم نصّه) "يعقوب صنوع: رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة" لـ نجوى عانوس

منذ قرابة أربعة عقود تشتغل الباحثة المصرية نجوى عانوس على تراث المسرح العربي، وقد أصدرت حوله موسوعة سنة 1984 صدر بالهيئة المصرية العامة لل...