الأحد، 1 سبتمبر 2019

(المؤلف يقدّم نصّه) الطاهر أمين عن "المثقف النقدي.. درس إدوارد سعيد"

لماذا خصَّصْتَ هذا العمل لإدوارد سعيد بالذَّات؟
ضرُورة الوَفاء بدَيْنٍ لإدْوارد سعيد ظلَّ مُؤجَّلاً أرْبع سنواتٍ.  كان الفصْل الأخير من كتابي الرَّابع "الأفُق النَّقديّ الجديد" (صَدَر في تونس شهر سبتمبر 2014، وصدَر عن دار الحوار السُّوريَّة في شهْر جانفي 2017) يحْمِل عُنْوان "التَّفْكير في الغُمَّة" حيْثُ حَضَرَ إدوارد سعيد (وهشام شرابي وعبد الكبير الخطيبي وإلياس خُوري) بوصْفه مُقدِّمةً حقيقيَّةً لاسْتِكمال المشْرُوع النَّهْضويّ الذي وُلِدَ ناقِصًا سواءٌ في تجْربته الأولى أو الثَّانية. كان إدْوارد سعيد "آخر النَّهْضويّين" وِفْقَ توْصيف فوّاز طرابلسي (أحَد مُترْجِميه الكبار إلى العربيَّة، إذْ تَرْجم له ثلاثة كُتُب)، 

وكان "امْتِدادًا للمُثقّف التَّنْويريّ الذي أنْجَبه عصْرُ النَّهْضة الأورُوبّيّ، لا بمعْنى المضْمُون المعْرفيّ، بل بمعْنى الوظيفة، التي تُقْنِعُ المُثقّف بالتَّمَرُّد وتُمْلِي عليه أن يدْعُوَ غيْره إلى التَّمَرُّد أيْضًا"، كما قال فيصل درّاج سنة 2008 في مُحاضرته "إدوارد سعيد: المُثقّف، السِّياسة، السُّلطة". بهذا المعْنى، لم نعُدْ نمْلك سوى خِيَار مُواصلة واسْتِكْمال ما كان إدْوارد سعيد قد بَدَأه مُنذ أن كتَبَ مقالته الأولى بالعربيَّة "صُورة العربيّ" سنة 1968، أي مُنذ أن وعَى بشكْلٍ عَميقٍ دَرْس نكْبة 1967 (ألم يقُلْ: "لم أعُدْ الإنْسان ذاته بعد العام 1967"؟) إذْ لم تكُنْ حَرْب الأيَّام السِّتَّة جوان 67 مُجرَّد هزيمةٍ عسْكريَّةٍ مُخْزِيةٍ، بقدْر ما كانت إعْلانًا صارخًا عن انْهِيَار مرْحلةٍ تاريخيَّةٍ بأسْرها ارْتبطتْ بحُلم الانْبِعاث الحَضاريّ الذي شكَّلَ أسَاس مشْرُوع النَّهْضة العربيَّة، أو الحَداثة العربيَّة، أو اليَقَظَة العربيَّة.. إلى آخِر التَّسْميات. إنّ إضافة إدوارد سعيد العميقة هي أنّه نجَحَ في تعْميق وعْينا بعمليَّة التَّمْثيل التي قام بها الغرب لتبْرير اسْتِعْماره للشَّرق والسَّيْطرة عليه (قراءة الغرب لذاته، بمعْنى تفهُّم تجْربة العقْل الغربيّ)، طالما أنّ "المعْرفة الاسْتشْراقيَّة وظيفيَّة، بقَصْد وَعْي الهيْمنة". هذا العمل العظيم لكتابه "الاسْتشْراق" (1978) الذي كان مدِينًا لـ"صدْمة الحَرْب" (التي أعَادَتْه "إلى نُقْطة البداية، إلى الصِّراع على فلسطين"، كما قال في سيرته الذَّاتيَّة "خارج المكان: مُذكّرات"- 1998) يسْمح لنا بأن نُعيد اكْتشاف تاريخنا المحلِّي، من أجْل أن تسْتعيد الذَّات العربيَّة وعْيها التَّاريخيِّ بذاتها.
هذه المُقدِّمات التي أراها ضَرُوريَّةً تقُودُني إلى الإجابة عن سُؤالك ضمْن السِّيَاق الذي جرَى فيه اسْتِدْعَاء إدوارد سعيد تحْديدًا: كتابي الرَّابع "الأفُق النَّقديّ الجديد" كان بحْثًا عن أسْباب فَشَل مشْرُوع النَّهْضة العربيَّة الذي طُرِحَ مُنذ قرْنٍ ونصْفٍ تقْريبًا. قادَني البحْثُ إلى اكْتشاف أنّ المشْرُوع النَّهْضويِّ العربيِّ لم يكُن نقْديًّا، أي لم يكُن ذاتِيَّ النَّقد بسَبَبِ مُحاولته الجمْع بين النَّمُوذج التُّراثيِّ الماضَويِّ (الاتِّجاه السَّلفيِّ التَّقليديِّ) والنَّمُوذج الغربيِّ (الاتِّجاه التَّجْديديِ الحَداثيِّ)، وبسَبَبِ اكْتفائه برُدُود الأفْعال لمُواجهة التَّحدِّي الغربيِّ. هناك سبَبٌ آخر، وهو أنّ السُّلطة العربيَّة كانت قد نجَحَتْ في تدْمير الرُّوح النَّقْديَّة مُنذ لحْظتيْ علي عبد الرَّازق (الإسْلام وأصُول الحُكْم) وطه حسين (في الشِّعْر الجاهليِّ)، أي أنَّها لم تسْمحْ بأن ينْشَأَ هامِشٌ نقْديٌّ يطْرحُ أسْئلة السُّلطة والمُجْتمع والتَّاريخ الثَّقافيِّ. بهذا المعْنى، حضَرَ إدوارد سعيد بوصْفه دَرْسًا يُشدِّدُ على ربْط دَوْر المُثقّف بالوظيفة النَّقْديَّة، وهو دَرْسٌ يُعلِّمُنا الكثير عن معْنى الثَّقافة كمُمارسةٍ نقْديَّةٍ، وعن ضرُورة "نقْد الثَّقافة وعَدَم تقْديسها"، من أجْل أن تكُون قادِرةً على حمْل مشْرُوع التَّحرُّر الوطنيِّ. إنّ أهمِّيَّة دَرْسَ إدوارد سعيد تكْمُنُ في أنّه خاضَ حَرْب الثَّقافة العربيَّة الحقيقيَّة: الصِّراع على الحاضر التَّاريخيِّ داخل الإحْباطات الفلسطينيَّة والعربيَّة. النَّقْد هو حاجة الحاضر، أي "الكتابة في أرشيف الحاضر". النَّقْد ليس تَرَفًا، بل حاجة تاريخيَّة. إنَّه قراءةٌ، أي عمليَّةٌ تتأسَّسُ على التَّراكُم المعْرِفيِّ. إنَّه مُساءَلةٌ من داخل المعْرفة التي يجِبُ أن تُرَاكَمَ حوْل الوقائع للعالَم. لا يُمْكِنُ أن ينْطلِقَ النَّقْدُ من فرَاغٍ، بل من "الاعْتِراف بوُجُود العالَم الموْضُوعيِّ"؛ طالما أنّ كلَّ النُّصُوص دُنْيَويَّة أي تاريخيَّة. النَّقْد فعَاليَّةٌ إنْسانيَّةٌ: الإنْسانُ فاعِلٌ، وفعاليّتُه هي أرْضيَّةُ وُجُوده.


ما الذي تعْنيه بـ"دَرْس إدوارد سعيد" في العنوان؟

كلمة الدَّرْس، وهي مصْدر من الفِعْل دَرَسَ واضِحة الدَّلالة في اللُّغة العربيَّة: ما تكَرَّرتْ قراءتُه ليسْهُلَ حِفْظُه، ما نحْرِصُ على فهْمِه، ما نتعلَّمُ منه، ما نتَتَلْمذُ عليه. من معاني الكلمة أيْضًا: العِظَةُ والعِبْرة. والدِّراسةُ بمعْنى البحْث والتَّحْقيق. هذه التَّبْسيطيَّة التي تكْتفي بالاسْتِعْمال القامُوسيٍّ توْضيحيَّة لا غيْر. لاحظي أنّ صيغة "درْس إدوارد سعيد" هي عُنْوانٌ فرْعيٌّ؛ فالعُنْوان الرَّئيسيُّ هو "المُثقّف النَّقْديُّ" يطْرحُ مفْهُومًا لا يزال بحاجةٍ إلى جُهْدٍ تنْظيريٍّ كبير بوصْفه خَزَّانًا للتَّصوُّرات والأفْكار المُتعلِّقة بافْتِراضاتِنا عن المُثقّف: وظيفته، علاقته بالسُّلطة، مقُولة نهاية المُثقّف.. الخ، وهي مسائِل مُلْتبِسة جدًّا في ثقافتنا العربيّة، طالما أنّ خاصِّية الوُضُوح لا تكُون حاضِرةً في جميع المفاهيم، وهذا ليْس عَيْيًا في حدِّ ذاته. تعْرفين صُعُوبة تصْنيف إدوارد سعيد ضمْن خانةٍ مُحدَّدةٍ بسَبَب تعدُّد انْشِغالاته الفِكْريَّة وتنوُّع كتاباته، لذلك حاولْتُ أن أقدِّم أهمَّ وُجُوهه التي جَرَى حجْبُها داخل التَّلقِّي العربيّ المُصاب بأسْوأ الأمْراض: الانْتقائيَّة التي تجِد تبْريرها في الإحْساس بعُقْدة الغرب تحْديدًا. لقد دفَع إدوارد سعيد ثَمَن كتابه "الاسْتشْراق" الذي تمَّ توْظيفه من طرف الجميع في حُرُوبهم الخاسِرة. لم يكُن "الاسْتشْراق" أهمَّ كُتُبه. لديَّ قنَاعةٌ ثابتةٌ- بعْد مُعاشَرته حوالي سنةٍ كاملةٍ- بأنّ تبصُّراته وحُدُوساته المُتعلِّقة بالمُثقّف (مُحاضرات ريث 1993، التي تُرْجمَتْ إلى العربيَّة: "صُور المُثقّف"/ "تمْثيلات المُثقَّف"/ "الآلهة التي تفْشل دائمًا"/ "المُثقّف والسُّلطة") تظلُّ أعْمق دُرُوسه التي لم يعُدْ مُمْكِنًا أن تظلَّ ثقافتُنا العربيَّة خارجها. إنَّه دَرَسُ المُثقّف النَّقْديّ الذي حَكَم مُحاولة اسْتيعابي لفِكْر هذا "المُفكٍّر الكوْنيِّ المُحَلَّق خارج المكان"، كما وصَفَهُ صديقُه محمُود درويش.


كيف تجِدُ الكِتابات حوْل إدوارد سعيد في العربيَّة؟

أوَّلاً، لم تتِمَّ بعْد ترجمة أعْمال إدوارد سعيد بشكْلِ كاملٍ، فكتابه "مسْألة فلسطين" لا يزالُ مجْهُولاً لدى القارئ العربيِّ لأسْبابٍ خفيَّةٍ، وكذلك كتابه "بدايات: القصْد والمنْهج" (أطرُوحته للدُّكْتُوراه) ثانيًا، هناك فوْضى غريبةٌ تتعلَّقُ بالتّرْجمات التي بين أيْدينا اليوْم بسبب تعدُّد المُترْجمين: كمال أبو ديب الذي أسَاء كثيرًا بسَبَبِ ترْجمته المُعقَّدة لكتابيْ "الاسْتِشْراق" و"الثَّقافة والإمْبرياليَّة"/ ثائر ديب الذي ترْجم "تأمُّلات حوْل المنْفى ومقالات أخْرى"، بعْد أن فضَح مُغالطات ترْجمة كمال أبو ديب في مقالةٍ مُطوَّلةٍ وواسعة الاطِّلاع / صبحي حديدي الذي ترْجم "تعْقيبات على الاسْتِشْراق"/ هناك محمّد عناني الذي أعاد ترْجمة "الاسْتِشْراق" ، وترْجم أيْضًا "المُثقّف والسُّلطة"/ هناك أسعد الحسين الذي ترْجم مقالات إدوارد سعيد السِّياسيَّة تحت عُنْوانٍ مُضلِّلٍ "خيانة المُثقّفين: النُّصُوص الأخيرة"، وهي ترْجمة رديئةٌ/ هناك فوّاز طرابلسي الذي ترْجم "خارج المكان: مُذكّرات"، و"الأنْسنيَّة والنَّقْد الدِّيمُقْراطي"، و"عن الأسْلُوب المُتأخِّر: موسيقى وأدب عكْس التَّيَّار"؛ وهي ترْجماتٌ دقيقةٌ وعميقةٌ/ هناك حُسام خضور الذي ترْجم "الآلهة التي تفْشل دائمًا"/ هناك محمّد كرزون الذي ترْجم "تغْطية الإسْلام"/ هناك غسّان غُصْن الذي ترْجم "صُور المُثقّف"/ هناك عبد الكريم محْفُوض الذي ترْجم "العالم والنَّصُّ والنَّاقد".
المُفارقة هي أنّ الأعْمال الكاملة لإدوارد سعيد لم تصْدُرْ بعد، وهذا غيْر مُبرَّر على الإطْلاق رغم أنّه لا يزال يحْظى باهْتمامٍ كبيرٍ في الغرب. لا تزالُ التَّرْجمة عمَلاً فرْديًّا رغم وُجُود المُنظّمة العربيَّة للتَّرْجمة (بيروت)، والمشْرُوع القوْمي للتَّرْجمة (مصر)، ومشْرُوع كلمة (أبو ظبي)، والمركز الوطنيّ للتَّرْجمة (تونس).
 

هل أنّ هذا العمل جُزْء من مشروع كتاباتك السَّابقة أم يُحْدِث قطيعة معها؟
كتاب "المُثقّف النَّقْديّ: درْس إدوارد سعيد" هو امْتِدادٌ  لكتابي الرّابع "الأفُق النَّقْديّ الجديد" بوصْفه دَيْنًا كما أشرْتُ سابقًا. إنّه ينْدرِجُ ضِمْن الخطِّ الثَّابت: المسْألة النَّقْدية، أي أزْمة النَّقْد في ثقافتنا التي لم يعُدْ مُمْكِنًا تأجيلُها.



أيُّ صدى للكتاب بعد أشْهر قليلة من إصْداره؟

لا أعْرف تحْديدًا، فمسْألة نشْر كتابٍ ما مسْألةٌ مُعقَّدةٌ. أنا أكْتُبُ في صمْتٍ وأنْشُرُ في صمْتٍ. لم أعُدْ مُقْتنِعًا بجدْوى اللِّقاءات الفِكْريَّة مُنذ مُدَّةٍ طويلةٍ، طالما أنّ السَّاحة الثَّقافيَّة لا تهْتمُّ بإصْدارات الكُتَّاب بسَبَبِ الوضْع المأساويّ الذي تعيشُه دُور الثّقافة، وبسبَبِ بُؤْس المُؤسَّسة الثَّقافيَّة الرَّسْميَّة. هُناك أزْمة عميقةٌ تتعلَّق بنشْر الكتاب في تونس وبتوْزيعه داخل أزْمة القارئ. الكتابُ الفِكْريّ لا يمْلكُ قُرّاءه. هُناك أزْمةٌ أيْضًا في الإعْلام الثَّقافيّ بسَبَبِ جهْل غالبيَّة الصُّحفيّين بالكُتُب الصَّادرة (إنَّهم لا يقْرأون للأسف) وعَدَم قُدْرتهم على المُحاورة الجادَّة. الحقيقة، أنا لا أهْتمُّ بمصير كتابي طالما أنّني مُنْشغِلٌ بكتابٍ جديدٍ. سأكْتفي بآخِر عزاءات الكتابة: "لا يوجَدُ كتابٌ خارج قارئٍ ما".



تعُود إلى خيار النَّشر دُون المُرُور بدار نشْر، لماذا؟

لديَّ تجْربتان: الأولى في تونس حيْثُ نشرْتُ كتابيْن في دارَيْ نشْر تونسيَّتيْن (دار سحر ودار ورقة)، والثَّانية في سوريا مع داريْ نشْر (دار الحوار ودار دال). التَّجْربتان مُتشابهتان، إذْ لا فرْق بين النَّاشر التُّونسيّ والنَّاشر العربيّ: كلاهُما، في الغالب، تاجِرٌ ولصّ. ماذا تسْتطيعُ أن تقُولَ عندما تكْتشفُ أنّ ناشِرك التُّونسيّ لم يقُمْ بإيصال كتابك إلى مدينة صفاقس أو القيْروان؟ هل تتوقَّع أنّه جادٌّ في إيصاله إلى الجزائر أو بيروت؟ النَّاشرُون التُّونسيُّون ينْشُرُون كُتبَنا من أجْل بيْعها لوزارة الثَّقافة وللحُصُول على دعْم الورق رغْم أنّهُم لا يدْفعُون لك حُقُوق التّأليف. ماذا تسْتطيعُ أن تقُول عندما يُعْطيك أيّ ناشِرٍ عربيّ مئة نُسْخة من كتابك هي حُقُوق تأليفك كاملة مُقابل عَقْد مُدَّتُه ثلاث سنواتٍ كاملة؟ ماذا تفْعل بمئة نُسْخة: هل تُهْديها أم تحْتفظُ بها في مكتبتك؟ هل يُعْقَل أن تكُون مُحصَّلة تسْعة أشْهُر من العمل اليوْمي: مئة نُسْخة ورقيَّة لا تُكلِّف النَّاشر شيئًا؟ ليْس معْقُولاً أن يظَلَ الكاتب أسير لصٍّ وجاهِلٍ يدَّعي كذِبًا أنَّه أفْنى عُمْره في خدْمة الثَّقافة العربيَّة. وإلى أيْن يذْهبُ عُمْر الكُتّاب القصير جدًّا؟ يُؤْسِفُني أن أقُول هذا، ولكنَّها الحقيقة التي تفْضحُ جرائم النَّاشِرين العرب بحقِّ الثَّقافة العربيَّة. كيْف نُفسِّرُ هذا الوَلَع الغريب بالتَّرْجمة اليوْم؟ لا شيء سوى عقْليَّة الرِّبْح. فالتّرْجمة لا تعْكِسُ أيَّ همٍّ معْرِفيٍّ حقيقيِّ، ولا تتأسَّسُ على أيِّ طُمُوح نهْضويٍّ. اليوْم يجْري إغْراق سُوق الثّقافة العربيَّة بكمِّياتٍ مهُولةٍ من التَّرْجماتٍ المُتعجِّلةٍ وغير الدَّقيقةٍ للرِّوايات العالميَّة وللشِّعْر العالميّ يقُوم بها في مُعْظم الأحْيان شُعراء فاشِلون. إنّ شعار "وقديمًا ترْجَمُوا" يظَلُّ تضْليليًّا عندما لا يتأسَّسُ على معْرِفةٍ دقيقةٍ بالحاجة إلى ما يجِبُ ترْجمته وضِمْن مشْروعٍ ثقافيٍّ واضِح المعالِم.
في الصَّحْراء العربيَّة القاحِلة لا تسْتطيع الكتابةُ الفِكْريَّة خاصَّةُ أن تكُون مصْدر ثَرَاءٍ: عليْنا نحْن الكُتَّاب أن نُطلِّق هذا الوَهْم السَّخيف. عليْنا أن نجِدَ حُلُولا فرْديَّةً. هذا ما أقُومُ به مع كلِّ كتابٍ جديدٍ في ظِلِّ غياب سياسة نشْرٍ رسْميَّة، وفي ظِلِّ هيْمنة النَّاشِرين اللُّصُوص على سُوق وزارة الثّقافة المُسْتبَاحة التي لا تخْتلِفُ عن أيَّة سُوقٍ أخْرى تعُجُّ بالمُرابين والمُحْتكِرين.



مادة خاصة بمدونة "منشورات". حاروته: بثينة غريبي

(ضيف منشورات) برهان غليون: كي لا نعود إلى سيطرة الأيديولوجيا

تحتلّ مؤلفات المفكر السوري برهان غليون موقعاً أساسياً في مكتبة الفكر السياسي العربي؛ أعمال مثل "المحنة العربية"، "اغتيال العقل"، و"نقد السياسة، الدولة والدين" و"مجتمع النخبة"، لا تزال إلى يومنا ذات قدرة تفسيرية لما يحدث في العالم العربي. مدونة "منشورات" استضافت برهان غليون في حديث عن جديده المعرفي


هل تشتغل على مؤلفات جديدة؟
بالتأكيد. لم يكن كتابي الأخير "عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل" سوى الجزء الأول من كتاب مراجعتي لمسيرة الثورة السورية، وقد عني بتشريح الأسباب التي أدت إلى إجهاض موجتها الأولى. أما الكتاب القادم فهو الأهم لأنه يتعلق بالرؤية المستقبلية أو بالعمل من أجل التقدم على طريق بناء سورية الجديدة التي ضحى السوريون من أجلها بكل شيء، أكثر من مليون شهيد، وضعفهم من الجرحى والمعاقين، ومئات ألوف المعتقلين المخفيين، و13 مليون من المهجرين القسريين والنازحين وأكثر من ستين بالمئة من عمران البلاد الذي تم تدميره مع انهيار كامل للاقتصاد، فضلا عن زوال السيادة وتوطن الاحتلال المتعدد الأقطاب.



كيف تنظر إلى مؤلفاتك السابقة، التي مثلت في وقت من الأوقات معالم في الساحة الفكرية مثل "اغتيال العقل" و"المحنة العربية"؟ هل تفكّر مثلاً في مراجعتها وإعادة نشرها؟كتبي ما تزال في التداول وقسم منها يعتبر مراجع في الجامعات ولا تحتاج لإعادة نشر. أما إعادة كتابة الكتب القديمة وتغيير ما جاء فيها فهي في نظري فكرة سيئة لأن الكتاب ينبغي أن يظل شاهدا على عصره. وعندما نغير أفكارنا أو بعضها فنحن نكتب كتابا جديدا، وبذلك نحتفظ بالأمانة الفكرية ونجدد أفكارنا في الوقت نفسه.


كيف ترى واقع الكتابة الفكرية السياسية اليوم في العالم العربي؟
أجدها في تقدم بالرغم من مظاهر الجمود السطحية. فلم يكن الاهتمام بالفكر السياسي على هذه الدرجة من الانتشار في أي وقت سابق في العالم العربي. صحيح أن هناك ضعفا في الإنتاج فيما يتعلق بالكتب، لكن هناك غزارة ملفتة في الأبحاث والدراسات والمقالات، ونضجاً أكبر وبحثا أكثر موضوعية واطلاعا أوسع. وسوف نحصد في السنوات القليلة القادمة ثمرات هذا التقدم.



هل تعتقد بأن "الربيع العربي" مثّل منعطفاً في الكتابة الفكرية السياسية العربية، أم أنه على هذا المستوى ظلّ تأثيره محدوداً؟بالتأكيد سوف يظهر هذا المنعطف في القريب. ومنذ الآن هناك أدبيات مهمة تتعلق بمسائل الثورة والتغيير والديمقراطية والدستور والدولة والقانون، باللغة العربية وفي الدوريات المختصة، لكن أيضا في الدوريات العلمية الدولية. باحثون عرب كثر يساهمون اليوم بلغات أجنبية في تحليل ما يحصل من تغيرات وأحداث وتقديمه إلى الرأي العام والأوساط العلمية الدولية. وهذا تقدم مهم.


ماذا تقرأ في هذه الفترة أساساً؟أعيد قراءة بعض الكتب المرجعية السياسية الكلاسيكية. وأتابع ما يكتبه نشطاء عن أشكال التعذيب الذي كانوا ضحاياه وشهوده في السجون السورية، وقد قرأت هذا الأسبوع شهادة وائل الزهراوي بعنوان: لهذا أخفينا الموتى، وفيه يروي كيف كانوا يخفون الجثث، التي تتكاثر كل يوم في المهاجع الجماعية، بسبب الجوع والقروح الناجمة عن التعذيب، من أجل أن يحتفظوا بحصة أكبر من الخبز. وكان السجانون يقدمون رغيفا لكل أربعة معتقلين في اليوم. وإخفاء جثة أو جثتين لعدة أيام تسمح لهم بأن يزيدوا من حصتهم ولو بغرام أو اثنين من الخبز. كما قرأت رواية/شهادة راتب شعبو الذي قضى 16 عام في سجون الأسد، منها أكثر من ثلاثة في سجن تدمر الشهير بعنفه ووحشية جلاديه، وهو مسمى سجن الموت، وعنوانها: ماذا وراء هذه الجدران. وهي رواية مليئة بالشفافية ورهافة الإحساس في مواجهة العنف اليوم لحياة السجون السياسية.


أي أفكار أو نظريات في المشهد الفكري العالمي تعتبر أن الفكر العربي عليه أن يتغذّى بها لفهم واقعه؟ينبغي أن يتغذى الفكر العربي بجميع الأبحاث الجدية بصرف النظر عن المناهج والنظريات، ولا يمكن تكوين فكر عربي خارج النقاش الفكري الدائر في الساحة العلمية الدولية وهذا هو ما يغني الفكر، وإلا أخشى أن نعود إلى حقبة سيطرة الأيديولوجيا كما كان عليه الحال في النظم السوفييتية أو البعثية. الغنى الفكري يكمن في التنوع والتعدد والتفاعل الجدلي بين التيارات والمدارس المختلفة.


مادة خاصة بمدونة "منشورات"

الجمعة، 30 أغسطس 2019

(كتب العالم) "ديدرو وفن التفكير الحر" لـ أندرو كيوران

"ديدرو وفن التفكير الحر" عنوان كتاب صدر حديثاً عن "آذر برس" للباحث أندرو كيوران، ومحاولة لكتابة سيرة فكرية موسّعة حول الكاتب الفرنسي الذي كان وراء فكرة إنشاء الموسوعة في القرن السابع عشر وهو مشروع يعتبر أبرز معالم عصر التنوير حيث حاول أن يجمع فيه كل معارف عصره. 
وعلى الرغم من كونه عاصر كلاً من فولتير وروسو، إلا أن ديدرو قد اكتسب توصيف "الفيلسوف الأكثر راديكالية في عصره"، ويعود ذلك لمحورية فكرة العدالة في كتاباته ومناهضته لمختلف أشكال الظلم الاجتماعي، وكان من أوائل من انتقد عدم المساواة في الدخل بين الرجل والمرأة. وقد استعيدت أفكراه بشكل موسّع خلال الثورة الفرنسية وفي القرن العشرين. 


(صوت القارئ) "أنوات": رسائل إلى المشهد الأدبي أيضاً - بثينة غريبي

رواية بمؤلفين، لعلّ ذلك يمثل أول مدخل نلج منه إلى "أنوات" حيث جمعت بين محمد القاضي وآمال مختار وصدرت عن "دار محمد علي للنشر". رواية يمكن أن تكون قطيعة، أو على الأرجح تجاوزاً، مع السائد من العلاقات بين الكتّاب في تونس.
يكون التعاون في حالات التأليف المشترك في بناء العالم التخييلي أو صهراً لأسلوبين بحيث لا نفرّق بين مساهمة هذا المؤلف أو ذاك؛ ولعل أشهر نموذج عن ذلك في الأدب العربي رواية "عالم بلا خرائط" التي جمعت عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا.

لكننا في "أنوات" سنقع على وضعية مختلفة، فالعمل شكلاً ينتمي إلى ما يعرف بالأدب الرسائلي، حيث أن نصوص العمل تأتي في شكل رسائل، غير أنها ليست بين محمد القاضي وآمال مختار، وإنما بين بتول وآدم، فلا نعرف هل نرد ما تقوله الشخصيّتان إلى المؤلفين معاً أم أن كلّ واحد منهما تبنّى شخصية وطوّرها على حدة مفترضا رؤاها وردود أفعالها؟
حين نقتحم العالم التخييلي للعمل لن نجد إجابة شافية على هذا السؤال، بل إننا سنكون أمام متاهات أخرى، فهاهو آدم يفاجئنا حين يوجّه رسائله إلى أنيسا وأليسا وغيرهما، إضافة إلى بتول؛ الاسم والشخصية الرئيسية في العمل.
يقول آدم في رسالة موجهة لجميع هاته الأسماء: "أتعلمين أيتها العزيزة أنني لا أملك أن أميز بينكن إلا في حالة صحوي وما أقلها... وما الفرق بينكن في الحقيقة؟ أليس الانسان في جوهره واحدا؟ ألم تشعري مرة بأنك لست أنت؟ وأنك عشت أكثر من حياة؟ وان أشياء تولد فيك وتموت في كل لحظة؟".
فتأتي الاجابة: "أنت من أنت؟ هل أنت ما تعتقد أنه أنت من روح وكيان وجسد ومشاعر وأحاسيس أم أنت الصورة التي رسمها لك الاخرون من حولك بل قل هل أنت الصور التي رسمها كل من يراك في ذهنه وفق مخياله ومرجعياته الثقافية والاجتماعية؟".
هكذا تتحوّل الرسائل إلى أسئلة، ربما اتفق المؤلفان على تضمينها في سبيل النهوض ببعد فكري للعمل، خصوصاً وأن شكل الرسالة طالما كان مطواعاً للجدل الفكري، وهو أفق يبدو منسياً في الأدب عرف كيف يطرقه محمد القاضي وآمال مختار باقتدار.
يبقى أن هذا اللقاء يبدو غير متوقع بين المؤلفين، على الأقل في مشهد الكتابة التونسية، فقد انهمك محمد القاضي في معظم مسيرته بالترجمة والكتابات النظرية حول الأدب، وهي حقول لم تلجها آمال مختار حيث نشرت أعمالاً تخييلية بين الرواية والقصة. ألا يمثل ذلك حدثاً في حدّ ذاته؟


مادة خاصة بمدونة "منشورات"

(ناشر في الضوء) صفاء ذياب: "شهريار" والبلاغة الجديدة للكتاب

على الرغم من كونهم شركاء في إنجاز كل عمل إبداعي، إلا أن الناشرين كانوا دائما بعيداً عن بقعة الضوء التي يجلس فيها المؤلف وحده عادة. مدونة "منشورات" تدعوهم لحديث في الضوء


كيف أصبحت ناشراً؟
لم يأتِ النشر اعتباطاً بالنسبة لي، فقد اشتغلت بالكتاب لأكثر من عشرين عاماً قبل أن أبدأ بالعمل بدور النشر أولاً، ومن ثمَّ افتتحت دار شهريار. بدءاً أنا قارئ، لم يكن الكتاب مجرّد تسليةً لي، بل كان موقفاً من الحياة ومن الواقع، منذ أواخر الدراسة الابتدائية هيّأت جوّاً خاصاً للقراءة، على الرغم من العمل الذي كان يأخذ جُلَّ وقتي، غير أني لم أجد فرصة تسمح لي بالقراءة إلا واستثمرتها. هذه القراءة دفعتني في أيام الدراسة الجامعية للعمل في الكتب، فكان عملي في الشارع الأشهر لبيع الكتب والنشاطات الثقافية وهو شارع المتنبي في بغداد، كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي، حيث أن التعامل بالكتب لم يكن بالأمر السهل، للأوضاع الاقتصادية أولاً، والأمنية ثانياً، غير أنني حينها لم أكن أعرف غير الكتاب وكيفية التعامل معه، فكوّنت عالماً خاصاً للعمل في هذا الشارع، ليستمر هذا العمل أكثر من عشر سنوات كانت ذروة التعلّم في فهم كل كتاب من جانب، وفهم القرّاء وكيفية إرشادهم للكتب الأفضل من وجهات نظر مختلفة. عشر سنوات لم تكن كافية للخبرة في الإعلان عن دار نشر، غير أن عملي في الصحافة الثقافية لسنوات طويلة، فضلاً عن عملي في دور نشر أخرى، ابتداءً من مجلة مسارات التي أسستها في العام 2005، ومن ثمَّ في دور بسيطة، وصولاً إلى دار وراقون، أهّلني للبدء بمشروع دار شهريار.
 


هل تعتبر أن النشر مهنة مُهدَّدة؟

في حوار مع أحد أصحاب دور النشر العربية، قال لي: أنت بدأت النشر الفعلي مع شروع الكثير من دور النشر الكبرى بالإغلاق.. هذه الجملة ما زالت ترنّ في أذني لأني كل شيء ثقافي مهدد في عالمنا العربي، لا سيما إذا نظرنا إلى الفارق بين دور النشر الجادّة ووضعها المادي من جهة، وبين نوعين آخرين من دور النشر: الدور الدينية، وتحديداً السلفية، والدور التجارية، التي أغلبها متمركز في الخليج ومصر.
فإذا زرنا أي معرض للكتاب، فإن قراءنا يشترون كتبنا بأكياس صغيرة، ربما لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في كل يوم، في حين نرى أن الدور السلفية لا تبيع بالأكياس أو بالكراتين حتّى، بل تقف شاحنات كبيرة لتأخذ طبعات عدّة من كل كتاب.
الأمر نفسه مع الدور التجارية، فإذا التفتنا إلى كتب لا قيمة لها، ولا تمت للثقافة بصلة، مثل كتب علي نجم، أو أثير النشمي، أو غيرها، سنجد أن أقل كتاب سيصل إلى الطبعة العاشرة.. فضلاً عن التزوير الذي تتجاوز طبعاته العشرين أو الثلاثين.
وهذا ما يجعلنا نتساءل: ما الذي يحدث؟ هل وصل الأمر بالعقل العربي وقرائه إلى الحد الذي لا يلتفت فيه إلى إصدارات مهمة مثل طرابيشي أو طيب تيزيني أو نجيب محفوظ أو محمد خضير أو محمود درويش وغيرهم الكثير.. ويذهب راكضاً إلى كتب لا قيمة لها، لا فنياً ولا لغوياً ولا فكرياً.. وكأن الأمر مقصود تماماً في خطّة واضحة المعالم لتدمير العقل العربي.
نعم النشر العربي مهنة مهدّدة إذا لم نلتفت لها جيداً ونتعاون في نشر الكتب الجيدة التي يمكن أن تعيد بناء عقولنا.



ما الخصوصية التي ترى أنها تميّز "شهريار" ضمن المشهد العربي؟
- منذ بداية فكرة تأسيس الدار، لم أكن منافساً لأية دار أخرى، بل كان الهدف الرئيس بناء دار ذات توجّه جديد تحتفي بالكتب المعنية بالحداثة وما بعدها، وكسر التقليدية، ومن ثمَّ تبنّي الأساليب الجديدة في الإبداع العربي والغربي في الوقت نفسه. لهذا بدأنا بمشاريع كثير منها سلسلة تحليل الخطاب والبلاغة الجديدة، إذا أصدرنا أربعة كتب حتى الآن، منها (بلاغة الخطاب) و(البلاغة الثائرة)، فضلاً عن مشروع مؤسس مصطلح ما بعد الحداثة إيهاب حسن، إذ أصدرنا حتى الآن أربعة كتب له، والكتاب الخامس تحت العمل. وهكذا استطعنا وضع الدار في مسارها الذي رسمناه من البداية.
أما ما يميز دارنا، فهذا ما يمكن أن يحدّده القارئ نفسه، غير أننا ابتعدنا عموماً عن الكتب التجارية، ومن ثمَّ عن الكتب الإبداعية ذات التوجّهات التقليدية، مثل الشعر العمودي، أو الرواية التي لا يملك أي جديد على مستوى البناء والموضوع.



كيف تختار المؤلفين؟ وهل توجد فئة منهم تفضّل عدم التعامل معها؟
لا يكمن الاختيار في المؤلفين بقدر أهمية الموضوعات، نعم هناك بالضرورة بعض الأسماء التي نسعى لاستقطابها، غير أن الموضوع وما يوافق خط الدار والتناول الجيد، هو ما يدفع الدار لتبني أي مشروع. لهذا نشرنا كتباً لمؤلفين غير معروفين، لكن نتاجهم مهم جداً، فضلاً عن إصدار أول لمؤلفين كانوا بارعين في تناول موضوعاتهم وطرائق إنتاجهم لها.



ماذا تشعر حين يقرصن كتاب أصدرته الدار؟القرصنة بكل الأحوال سرقة، إن كانت سرقة حقوق أو سرقة أموال الناشر أو سرقة جهد المؤلّف، حينما يقوم أي مقرصن بسرقة الكتاب، إذ كان بنشره بصيغة إلكترونية أو عن طريق استنساخ الكتاب، فإنه يهدّد الدار بالتوقّف، لأنه بهذه الحالة يبيع الكتاب بثمن بخس بعيداً عن قيمته أولاً، وعن التكاليف التي تصرفها دار النشر ثانياً، فهو غير معني بحقوق المؤلف، ولا بالتصميم، ولا بالطباعة، ولا بالتوزيع، لهذا هو اختصر كل هذه المراحل والتكاليف المادية بنسخة واحدة يزوّرها، وهذا يهدد الدار نفسه، لأنها قد لا تبيع الكتاب فيما بعد، وبالتالي، ستعلن إفلاسها، وحينها لن يجد هذا المقرصن ما يسرقه مرّة أخرى.


ما نوع الكتب التي تقرأها بعيداً عن العمل؟
أنا معني بالجانب الثقافي عموماً، غير أني كوني شاعراً صدرت له أكثر من ست مجموعات شعرية، أهتم بالدراسات التي تبحث في الاختلاف، وطرائق إنتاج النص الجديد أولاً. وثانياً لي جانب أكاديمي أحب أن أستمر به، فموضوعي في الماجستير والدكتوراه هو الأدب الشعبي، وتحديداً السيرة الشعبية، لذا أسعى لقراءة كل ما هو جديد في هذه الموضوعات. وبالتأكيد هذا لا ينفي عدم وجود قراءات في الرواية أو الدراسات الفكرية عموماً.



مادة خاصة بمدونة "منشورات"

الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

(ضيف منشورات) خليل قويعة: التّفكير في ممكنات اللغة التّشكيليّة

1- في كتاب "العمل الفنّي وتحوّلاته بين النّظر والنّظريّة" تهتمّ بمسألة التّلقي في الفنون البصريّة، ما الذي قادك إلى هذا الإنشغال؟
لم يقدني أحد، أنا من قدت نفسي بعد تدبير فهم ملائم للفن انطلاقا من تجربتي الفنيّة وقراءاتي الفلسفيّة، كما لم أقد أحدا وأحاول أن أكون قائد أفكاري... ومثلما تعلمين، ليس الفن مجرّد صناعة للوحات أو منحوتات أو خزفيّات... بل هو فكر متنام داخل معترك ثقافي يقوم على مراكمة المواقف والرّؤى ومواصلة مسار الإنشاء من المبدع إلى فاعلين أخر داخل المعرض أو المتحف أو الوسائط المتعدّدة. فلا يقتصر الأمر على الإبصار الحسّي والنّظرٍ "إلى" الأشياء الجميلة، بل أكثر من ذلك، يشمل النّظر "في" الأشياء، أي إعمال الفكر. إذ الإدراك نفسه مجموع ما هو حسّي وما هو ذهني. وهكذا، يتسع المجال في الفنّ إلى تنشيط عمليّات النّظر الإبصاري والذّهني ومختلف الأنشطة المعرفيّة التي تستحثها القراءة والتّأويل والنّقد والتّنظير.

ناهيك وأنّ الناقد هو من يؤسّس المعنى في الأثر وهو من بفضله يستمرّ العمل الفنّي في شكل أفكار ومواقف، في الفنّ المعاصر خاصّة، لا يقتصر على لحظة جماليّة سلبيّة خاطفة أو عابرة، بل يتّسع إلى تبيّن دلالات الإثارة والسّخرية والفضح والتّحسيس... على قاعدة قيم السّلم والحريّة، كما في الفنّ الملتزم، والقضايا الإيكولوجيّة، في فنّ الأرض والفن البيئي... وهو ما يمكّن الفنّ من تجاوز قيمة الجميل بحثا عن الإثارة من خلال تشويه صورة العالم وتقبيح صورته... وقد نشرت سنة 1989 نصّا حول جماليّة القبيح في الفنّ الحديث والمعاصر، بطلب من مجلّة "الحياة التشكيليّة" السّوريّة وقتها وكان يرأس تحريرها الأستاذ طارق شريف. إذ لا ريب، لزاما علينا أن ننخرط في هذه التّحوّلات المفهوميّة وربّما نتفاوض معها على الأقلّ، تلك التي أفرزتها الحداثة وألقت بضفافها على ثقافة التّلقّي. فنظريّة الفنّ في الحداثة وما بعدها لم تعد نظريّة للجميل، كما في القرون الوسطى أو فجر النّهضة الأوروبيّة. كما أنّ العمل الفنّي لم يعد "جميلا" بالضّرورة. إذ "الجمال خاصيّة أنطولوجيّة للعالم الطّبيعي"، بينما الفنّ منذ غوتة مرورا بهيغل أصبح أعقد وأسمى من المواضيع الطبيعيّة، بما هو نشاط للفكر وإحدى تجلّيات الرّوح المبدِع في التّاريخ. إنّ من ابجديّات الحداثة التفريق بين الجمال الفنّي (الإنساني) وبين الجمال الطّبيعي.
لقد أصبح على الشغل النّظري المتعلّق بالفنون أن يغيّر متّجهاته ويباحث في الأعمال الفنيّة مدى قدرتها على خلق القيم الجديدة وربط العمل الفنّي بالمعرفة حتى لا يكون مجرّد إحساس فرديّ معزول (Solipsisme) يدّعي الكونيّة على شاكلة ما يحدّد اليوم أزمة الفنّ في العالم العربي، حيث لم تخرج الحداثة بعدُ من هاجس الفرد وعبقريّته لتصبح سيرورة اجتماعيّة بين الذات و"الآخر". فالتلقي اعتراف بهذا الآخر المشارك في تأسيس مسارات الفعل الإبداعي وانفتاحها. ومثل هذا الرّهان يتطلّب إعادة النّظر في دور النّظر داخل المسار الإبداعي وكيف أنّه يضمن مواصلة عمليّة الإنشاء ما بين النّظر والنّظريّة. وفعلا، لا يمكن الحديث عن عمل فنّي ما لم يُعرَض داخل الدّورة الثقافيّة ويَعبُرَ المشهد العام للسّيرورة الإجتماعيّة من خلال النّصوص، أي ما لم يقع تلقّيه من قِبل مشاهد، ناظر، جمهور ثمّ قاري ومؤوّل وناقد ومنظّر. بل إنّ هذا الرّهان يلقي بضفافه حتى في مبادلات سوق الفنّ، حيث تقع ترجمة القيمة الجماليّة إلى قيمة مصرفيّة بالاستناد خاصّة إلى موقع العمل في "عالم الفنّ" الذي يحرّكه عديد الفاعلين في شكل أفراد وجماعات ومؤسّسات. إنّ المتلقّي، النّاظر، هو من يصنع العمل الفنّي، كما قال رائد الطلائعيّة مارسيل دوشمب. وسنة 1994، كنت قد تحدّثت مع هانز روبرت ياوس، كبير جامعة كونستونس الألمانيّة، في هذه المسألة وفي بعث مشروع حول جماليّة للتلقي منكبّة على الفنون التشكيليّة البصريّة. قال لي بالحرف الواحد هذا ما ينقصنا في كونستونس حيث كرّسنا عقودا من الزمن في دراسة تلقّي الأعمال الأدبيّة لدى غوتة وفيكتور هيغو... واقترحَ عليّ التّعاون مع أحد أفراد الجيل الجديد لكونستانس وهو ولفغانغ كمب الذي كانت له وقتئذ نيّة التّخصّص في هذا المجال.
يعود اهتمامي هذا إلى أنّنا كلّما تحدّثنا عن الأعمال الفنيّة لا نذكر سوى أصحابها من الفنّانين ونتناسى دور المتلقّي الذي يعدّ باعثا انطولوجيّا جديدا للأثر ولاعبا أساسيّا في "عالم الفنّ"... بل وكلّ فعل تواصلي وسيميولوجي من خلال الفنّ لا ينشط إلاّ بوجود أربعة مقوّمات وهي الفنان، العمل الفنّي، المتلقّي والفضاء الثقافي الذي يجمعها. وما يزال الفضاء الثقافي في ربوعنا أعرج، أحاديّ الإشتغال، يفتقد إلى دور المتلقّي في الفنون البصريّة وذلك نظرا لغلبة المفهوم الطّربي للإبداع الذي يرضي النّاسَ ويكرّس السّائد (L’art d’agrément) على حساب البعد التّأمّلي والتّفكّري. وهو ما انعكس على سياساتنا الثقافيّة عامّة التي همّشت المتلقّي وأبناءه الشرعيّين من قارئين ومؤوّلين ونقّاد ومنظّرين، لصالح نجوميّة المبدعين الأصليّين والفنّانين وخاصّة ممّن يُعتبرون صنّاع المتعة الجماليّة.
هذه الفجوة في الفضاء الثقافي بتونس والعالم العربي، كنت قد لاحظتها منذ معرضي الأوّل سنة 1983 ومعرضي الثاني سنة 1987، حيث وجدت مُجاملين ظاهرين ومناوئين متخفّين ولكن لم أجد "جمهورا" فاعلا. وقد طرحت هذا الموقف قُبيل تأسيس مهرجان المحرس للفنون التشكيليّة في الجَرَائِدِ سنة 1988 وأثناء لقاءات تأسيسه بدار الثقافة ابن خلدون بتونس ضمن برامج اتحاد الفنانين التشكيليّين. بل وسنة 1997، اقترحتُ على التلفزيون التّونسي سلسلة دامت خمس سنوات، من الحصص التي تتّجه إلى الأعمال الفنيّة وتحث النّاس على الإلتفات إلى الأعمال الفنيّة والنّظر إليها وفيها (طبقا للمنهجيّة التي عرضتُها على ياوس) وقد استثمرت ممكنات اللّغة السينمائيّة في تفصيل الصّورة الفنيّة وإعادة إنتاجها... بعد ذلك دُعيت من قٍبل الدّكتور محمد حمدان لتدريس قراءة الأعمال الفنيّة في برامج طلبة الصّحافة بالأقسام النّهائيّة، في إحدى الجامعات، وفي نفس الوقت كنت أقدّم التّجارب الإبداعيّة التونسيّة والعربيّة... بمجلّة "الحياة الثقافيّة" وجريدتي "لابراس" و"الصّباح" ثمّ دعتي الأستاذة عواطف بن حميدة مديرة الإذاعة الوطنيّة وقتذاك لإعداد برامج في هذا الشأن يحث الشباب على الذهاب إلى المعارض الفنيّة ويقدّم مفاهيم الفن الحديث والمعاصر ويتحاور مع الفنانين وأصحاب الكتابات والبحوث حول الفنون ومع النّاس... وسنة 2003 قال لي بعض طلبة السّنة الرّابعة في حفل تخرّجهم من المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل أنهم جاؤوا إلى الفنون من خلال متابعتهم لهذه البرامج ! عندها شعرت أن مهمّتي ما تزال طويلة، حيث (وإن استنتجت شيئا ذات معنى) كانت النّتيجة تكوين فنّانين وأساتذة عوضا عن تكوين "جمهور" !!! لكنّ ذلك شجّعني على مزيد مراكمة الجهود في المجال.
تلاحظين إذن أنّ منطلقات المسألة ليست أكاديميّة خالصة بل ثقافيّة وإعلاميّة، ميدانيّة... تراهن على التلقّي الجمالي كضمانة لتحوّل العمل الفنّي من المرسم أو الورشة إلى الفضاء الثقافي العام ثمّ اكتساح الفضاء الإعلامي، ليصبح مساهما في صياغة الضّمير الثقافي للمجتمع وجزءا من حياة النّاس، وهذا ما نطمح إليه، حتّى لا يكون الفنّ مجرّد ترف في الصّالونات المغلقة.



2- تحضر الفلسفة بقوّة، لماذا تعتمد هذا المنطلق بالذّات في مقاربة الفنّ؟
بالعكس، أنا أنطلق من الفنّ إلى الفلسفة وليس العكس. رغم أنّ المسألة يمكن أن تكون فلسفيّة خالصة بطبيعتها. ولا ريب، عندما يتحوّل النّظر إلى إنشائيّة فكريّة، قصديّة وسيميائيّة (إذا ما استعرنا لغة جون ماري شافار)، باتّجاه صياغة "رؤية" نقديّة، لا بدّ من معاشرة أجهزة المَفهَمَة والتّجريد. وهو ما يتطلّب اطلاعا على الأجهزة المفاهيميّة الفلسفيّة في النّظريّة الجماليّة والفينومينولوجيّة ونظريّات الفلسفة التّحليليّة الأنغلوسكسونيّة التي تشتغل على تحليل اللّغة، كبنية منطقيّة. لا يكفي أن ننظر إلى العمل الفنّي من خلال ألوانه وخطوطه وعلاماته التشكيليّة والأيقونيّة وطرائق بنائه فقط، فتلك حدود المقاربة التقنيّة داخل الورشة وذلك لا يكفي. إذ على النّاقد أن يستفيد من الفلسفة بما هي مؤسّسة للتّجريد والنّقد والمفهمة، حيث الانتقال من النّظر الفيزيائي تارة، ومن التّماس الانطباعي تارة أخرى، إلى النّظر من داخل المتن اللّغوي نفسه الذي يُمنطِق العالم المدرَك ويساعدك على تشكيل العمل االفنّي داخل كيان النّصّ (فالنّقد الفنّي ماهيّة نصيّة) بما هو متكوّن من وحدات منطقيّة بعضها يؤدّي إلى بعض...
وكنت لهذا الغرض قد درست الفلسفة ثمّ فلسفة الفنّ والجماليّات، بما هي تفكير فلسفيّ في الفنّ. وبعد الأستاذيّة اتّجهت إلى المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس للتّخصّص في نظريّات الفنّ. فالفنّ قبل الفلسفة (على عكس بيان جوزيف كوسيث) ولا نظريّة للفنّ دون فلسفة، فدونها سيكون نظرنا إلى الأعمال الفنيّة سطحيّا لا يُنتج معرفة. إذ الفنّ اليوم، خطاب معرفيّ بالأساس وليس فقط حالة انطباعيّة. إنّه موقف من العالم وطريقة لإعادة ترتيب الاشياء.
ولا ريب، كما أكّد آرثر دانتو، أحد فلاسفة الفن المعاصر، إنّ التّحوّلات الأخيرة التي شهدها الفنّ في النّصف الثاني من القرن العشرين قد نشأت من داخل الإعداد الفلسفي لطبيعته المخصوصة، بما هو يتميّز عن مجموع المواضيع والأغراض التي تحيط بنا في الواقع الحسّي والتي لا تستدعي تأويلا. وفي مثال آخر، نفهم ما قصده أحد روّاد الفنّ المفاهيمي وهو جوزيف كوسيث في بيانه الموسوم بـ "الفنّ بعد الفلسفة" (Art after philosophy)، حيث أنّ ما ننظر إليه في الفن المعاصر وخاصّة المفاهيمي من أغراض وإنشاءات ماديّة معروضة أمام الإدراك الفيزيائي المباشر، ليس تمامًا ما يحدّد وجود العمل الفنّي. فما يوجد أمامنا ليس بعمل فنّي، بل العمل يوجد في الذّهن أو ما أسمّيه بالأفهوم أي في الأنا- أفهم، وليس في ما يُعرض أمامنا من أشياء نراها ونلمسها...
ومن جانب آخر، نحن اليوم نعيش مفارقة تراجيديّة، ترانا نلهف للإنخراط في الثقافة الفنيّة والجماليّة والإنشائيّة أملا في أن نحتلّ موطئ قدم في هذا العالم المتحرّك، ولكن ليس لدينا جهاز مفاهيميّ ملائم للمرحلة التّاريخيّة التي نعيش، ولا حتى جهاز اصطلاحيّ يخصّنا. فنحن نتعامل مع تجاربنا الفنيّة من خلال المفهوم الغربي للفنّ الذي صاغه فلاسفة الحداثة منذ بروز الذّاتيّة والتّذاوت أو التبادل بين الذّوات ومفهوم الجميل لا من حيث هو طبيعي بل كقيمة إنسانيّة نسبيّة مستقلّة، ومن ذلك أيضا مفهوم المعرض والمتحف. ففي تراثنا العربي الإسلامي ليس ثمّة "أعمال فنيّة" وقع إنتاجها من أجل العرض الفنيّ. بل هناك أغراض وأشياء ذات وظائف استعماليّة ونفعيّة... هناك خطوط لتدوين النّصوص وأواني ومزهريّات ودروع وزرابي ورقوش ونقوش لإكساء الجدران وتزويقها وهي صناعات حرفيّة في المعمار والأثاث... لا بدّ من الاشتغال الفلسفي والنّقدي على هذه المآزق الإشكاليّة.



3- هل استفدت من كونك فنّانا تشكيليّا لإنجاز هذا الكتاب النّظري؟
طبعا، فالكتاب ورقة عمل نابعة من التّفكير في ممكنات اللّغة التّشكيليّة كما مارستها وفي ما تهديه للفنّان والنّاقد والجمهور من إحالات على أوجه مختلفة من التّفكير في قيمة الحياة. ولا فنّ ينشط خارج التّجربة ومنطق الممارسة، حسّيّا ووجدانيّا وفكريّا. ومن ثمّة، يتوجّب على نظريّة الفنّ أن تنكبّ على دراسة روافد هذه التّجربة الإبداعيّة وهي تعيش اللّحظة الحيّة وتستشرف آفاقها. وكتشكيليّ ممارس، استفدت من الفنّ في إعداد الكتاب من خلال ثلاثة أفعال: أ- كيف أنظر وأفعل تشكيليّا في ما أنظر إليه؟ ب- كيف أعرض أعمالي أمام جمهور في فضاء ثقافي؟ ج- كيف أسترجع مسار الإنشاء الفنّي عبر المقاربة الإنشائيّة؟
فاللّحظة الأولى إبداعيّة والثانية تواصليّة تفاعليّة (أي جماليّة تراهن على الإثارة الحسيّة) أمّا اللّحظة الثالثة فهي إنشائيّة، تُواصل مسار الإبداع من خلال الفكر. لكنّ هذا المسار ليس حكرا على الفنّان بل يدعو إليه فاعلين أخَر داخل فضاء ثقافي موسّع يحثّ على مشاركة أطراف أخرى في هذه اللّعبة الإنشائيّة من نقّاد ومنظّرين وهو مجال انتقالي من الإنشائيّة الفرنسيّة (روناي باسّرون ورفاقه) إلى إنشائيّة أخرى تشاركيّة تستفيد من فنون العرض والافتعال الفنّي (Les artefacts) ويمكن أن نجدها مجسّدة في جماعة الفلسفة التّحليليّة الأمريكيّة (نالسون غودمان مثلا) وهي لحظة أنطولوجيّة. إذ المقاربات التّحليليّة التي ساعدتني في تحويل النّظر إلى نظريّة، قد أسهمت في صياغة "عالم الفن" الذي يتنفّس فيه الأثر ويعيش، بل هي تقدّم نفسها كشرط لوجوديّة العمل الفنّي نفسه في التّاريخ الثقافي.



4- كيف ترى واقع الكتابات الفكريّة حول الفنون البصريّة في العالم العربي؟
هناك نقّاد وهناك تجارب عديدة رافقت جيل التّأسيس والرّيادة منذ بداية القرن العشرين، بُعيد الثلاثينات خاصّة... ولكنّ النّقاد العرب لم يحظوا بعد بالمنزلة الملائمة.  بل وقد وقع تهميشهم وإقصاؤهم على نحو ما وقع سنوات السّتينات بتونس مع جيل التّحديث، حيث كان الفنّانون المتنفّذون في السّياسة الثقافيّة ينزعجون من النّقاد ولا يعترفون سوى بالصّحفيّين الموثقين و"الخلوقين" للتّعريف بإنتاجاتهم والدّعاية لبرامجهم الجماليّة (النّوستالجيّة ذات العلاقة بالفولكلور وما ترغب عين السّائح الأجنبي في رؤيته)... وهذا في عديد البلدان العربيّة أيضا وقد أوضحته في كتابيَّ "تشكيل الرّؤية" وكذلك "عمارة الرّؤية" (2007) و"بنية الذّائقة وسُلطة النّموذج" (2013) الذي حصل على جائزة من الشارقة في البحث النّقدي وقد أكّدت فيه أنّ النّاقد (الذي يفترض أن يؤسّس لقيم سوق الفنّ ويوجّه مساراته) ما يزال مهمّشا. ولئن أكّدت في "العمل الفنّي وتحوّلاته..." أهمية النّظر في إنشائيّة العمل الفنّي... إلاّ أنّني ساع إلى تعميق المسألة بالعودة إلى تاريخ الفنّ في ربوعنا، ضمن كتاب آخر حول إنشائيّة التّلقي نفسه وتحوّلات قاموس العلامات التشكيليّة...



5- ما الذي ينقص الفكر الجمالي العربي اليوم وأيّ أفق لتطويره؟
لا يخفى عليك أنّ المتلقّي مهضوم الحقّ في الفضاء الثقافي العربي ومن ذلك تتناسل مكوّنات أزمة الفنّ وترويجه، خصوصا ونحن نحتاج اليوم إلى تعميم ثقافة التلقي الجمالي، بداية من برامج التّربية، ونشر الثقافة النقديّة لمواجهة هذا الزّحف العولمي الذي طال مختلف ربوع العالم العربي، حيث تأتينا الأعمال الفنيّة المصنّعة في شكل ثقافة معلّبة من أقاصي الشرق والغرب ومن إفريقيا معوّقة تجذير الذّائقة الفنيّة وتطوّرها الطبيعي والتّاريخي... وهي حالة من الاغتراب فعلا، تشجّع عليه سياسة السّلعنة وتبضيع الفكر الجمالي وكذلك تضبيع العقل الثقافي.
وسنة 2006 دعانا الأستاذ طلال معلاّ إلى تكوين الرّابطة العربيّة لنقّاد الفنّ، ولكن سرعان ما وقع إجهاض المشروع. إذ الواقع العربي لم يتحمّل بعدُ منبرا دوريّا وقارّا للخطاب النقدي. فمازلنا نتحدّث عن الفنّ فنسرد أوصاف الفنّانين وسيرتهم، باحثين عن أسطرة ممكنة تبتلع موقع المتلقي والنّاقد والمنظّر وتعدمه. كما أنّ هذا الواقع ما يزال مورّطا في ثقافة الفنّان الفرد على حساب الجماليّة التّفاعليّة المتعلّقة بتشريك الجمهور.
ولكن، هناك مبادرات لإصدار الكتاب النّقدي بروح نضاليّة وهاجس وطنيّ لدى بعض النّاشرين وهناك بحوث جامعيّة وإن، بعدُ، لم تتغلغل كمستند للرّؤية في السّياسة الثقافيّة وبقيت مشدودة إلى المجال الأكاديمي، وذلك في أحسن الأحوال لا محالة. إذ المعترك الثقافي والفنّي العربي ما زال لم يستوعب بعد النّقاد العارفين وكثيرا ما يقع تعويضهم في هيئات الإعلام ولجان التّنظيمات الثقافيّة ببعض الدُّمَى أو بأطراف أخرى من خارج الممارسة الفنيّة والنّقديّة... النّاقد، المنتج والمفكّر لم يجد حظّه بعدُ والحال أنّه طرف في حداثة الفنّ في العالم وما بعد الحداثة. وهو مردّ سيطرة المفاهيم البالية للفنّ في عالمنا العربي، حيث تعتمد البرامج الثقافيّة على مفاهيم للفنّ غير ملائمة، مرتبطة بالكمالي والتّكميلي والتجميلي والزّينة... والنّتيجة، مقاربات تربط الفنّ بالتّنشيطي والتّرفيهي والمهرجاني العابر على حساب مفهوم الإبداع.
على أنّ من شأن النّهوض بالكتابات الفنيّة أن يتدارك هذه المآزق التي تمرّ بها الثقافة الجماليّة في العالم العربي في ظلّ الاستهلاك العولمي... ولنا أن نثمّن بعض المبادرات التي تقوم بها الهياكل والجمعيّات والجامعات في بعض البلاد العربيّة مشرقا ومغربا، من خلال تنظيم النّدوات المتعلّقة بالفنون وتحاول أن تطرح قيم الإبداعيّة والهويّة والتّأسيس على ضوء تحوّلات الرّاهن التّاريخي الكبير وما مدى موقع الفنّان العربي داخل الخارطة الدّوليّة... على نحو ما كنّا نتصوّره منذ سنوات ببيت الحكمة بقرطاج، أو برامج الجمعيّات التي أسّسنا ونشتغل فيها. كما يجب أن نحيّي بعض النشرات الجامعيّة والمجلاّت العربيّة المختصّة التي يسهم فيها النّاقد العربي. وها نحن، على سبيل المثال، في مجلّة فنون (التي أسّسها الكاتب البشير بن سلامة سنة 1983 وقد نجحنا في إرجاعها سنة 2012) نحاول جميعا النّهوض بالأصوات النّقديّة وترويج الثقافة الجماليّة (التّفاعليّة) فضلا عن الثقافة الفنيّة التي تقوم على إبراز إبداعيّة الأعمال الفنيّة. والأمثلة موجودة الآن في العالم العربي، رغم قلّتها، في المغرب أيضا والأردن والعراق وسوريا ومصر وبيروت والخليج العربي طبعا، الشّارقة والدّوحة ومسقط والكويت... فضلا عمّا يوجد بالمهجر من مبادرات.


مادة خاصة بمدونة "منشورات"/ أجرت الحوار: بثينة غريبي

(متساكن جديد في مدينة الكتب) "أطروحة للحياة" لـ بوران شريعتي رضوي

يصدر قريباً عن دار "الانتشار العربي" في بيروت كتاب "أطروحة للحياة" لمؤلفته بوران شريعتي رضوي (1934-2019)؛ زوجة المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي، وهو من ترجمة خليل العصامي.
نشرت رضوي الكتاب رداً على الهجوم الذي شنته صحيفة "15 خرداد" والتي اتهمت علي شريعتي بالعمالة وتحدّثت فيه الكاتبة عن محنة زوجها ومسألة الحريات عموماً.
كانت حياة بوران حافلة بالنشاط السياسي والثقافي والاجتماعي، وإلى جانب هذه الأبعاد تتناول الكاتبة شؤون الحياة اليومية مثل مهمات الأمومة وحماية أبنائها عن دوامات السياسة.



المصدر: العربي الجديد

(المؤلّف يقدّم نصّه) "يعقوب صنوع: رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة" لـ نجوى عانوس

منذ قرابة أربعة عقود تشتغل الباحثة المصرية نجوى عانوس على تراث المسرح العربي، وقد أصدرت حوله موسوعة سنة 1984 صدر بالهيئة المصرية العامة لل...